من أوجاعي تنتشلني الموسيقى وإلى أفراحي تأخذني. فلا صديقة لي بعد مثلها.. منذ عرفتها وهي تتحول بي وتشيع في حسي مداها.
برفقتها يتلاشى الزمن لتبقى أنثى الموسيقى العاطفة والعشق والجنون بعقل أو بدونه. عن الموسيقى سأخبركم أنها هي المكان والزمان وهي البيئة المناسبة للسفر إليها أبدا. حين تتوحد بها فلست بحاجة إلى أي بقعة أخرى فهي المناخ والطقس والمزاج الذي يكون تحولاتك الفسيولوجية.
في كل مرة أعيش مع الموسيقى توهجا وتحفزا حتى وإن عاودت الاستماع إلى الموسيقى نفسها، فهي القادرة على التجدد وهي من تملك تخلقا مرنا متمدنا مكيفا ومتكيفا حسب المزاج والحالة والشعور والوعي. لذلك فالشفرة السرية التي بينها وبين المخ في حالة خلود وانبعاث. كثيرا ما أقفز من جمودي وحالات مللي وروتينية واقعي، من ركودي في جحر كآبتي وأقرر إزاحة الشحوب عن ملامحي وكنس غبارها عن أعماقي. والموسيقى وليدة ولادة الأحاسيس الأولى فطرية كاملة اللذة والرغد. ومثلما الشعر فالموسيقى شعر الوجدان لا شعور الحس وهي الإصغاء, والخيط الذي يصلنا بذواتنا، نتسلق بسلمها أرواحنا وتتسلقنا. علاقة الشعر بالموسيقى علاقة الروح بعوالمها. ولا ترتبط بحدود أو محيط بل جغرافيتها الوحيدة هي الحس الرفيع بالكلمة والموسيقى.
كل يجمع عليها لأنها محايدة مستقلة متحررة دون هوية خاصة.. فهي لكل شيء. الهوية. لكل جغرافية.. هي الخارطة. حالة انتفاض ورعشة ويقظة من سبات ساقني رغما عني تتحرر الروح مستسلمة تقودها الموسيقى إلى سكينتها أو توهجها، الموسيقى خارطة الذهن إلى إلهامه فهي مزرعته الخصبة بكل حواسه والأشد ضمانا لابتكاراته وتماهياته كلما تعمق سماعها واتصلت حواسه بها. الموسيقى حياة.. يقاسي من يجرمها جفافا إنسانيا وعاطفيا!
يقول الأستاذ محمود محمد طه في كتابه (الإسلام والفنون): «أعرق الفنون، وأعظمها، وأشرفها، على إطلاقها الموسيقى وإنما يجيء شرفها من أمرين: أحدهما ارتباطها بالأصوات، والصوت لازمة لا تنفك عن الحركة، والحركة أصل الوجود الحادث، على إطلاقه... وثانيهما أنها تُدرك بحاسة السمع.. وحاسة السمع أشرف الحواس السبع (ما عدا القلب والعقل) فهي تلي القلب، والعقل، وتجيء بعدها حاسة البصر، ثم حاسة الشم، ثم حاسة الذوق، ثم حاسة اللمس (الحس)
ويجيء شرف حاسة السمع على حاسة البصر، وبقية الحواس الأخرى، من سعة ما تؤدي إلى العقل من معلومات، وإلى القلب من أحاسيس، هذا من أجله قدم السمع على البصر في سائر آيات القرآن، وأعطي منزلة الشرف فيها. هذا هو السر في الراحة التي تجدها النفس عند الاستماع إلى قطعة من الموسيقى الراقية».
الموسيقى هي اللغة التي لم تنطق ولم تكتب فليست لسان قوم بعينهم ولم تتنزل على شعب أو مكان أو زمان. تحررت الموسيقى من ذلك كله إلا إنها لم تنتم لمكان بعينه بحيث تفقد خصائص يتعلق بعضها بالمكان فهي في حداثة مستدامة. هي لغة الإحساس الذي يتشارك فيه الناس والمحسوسات. دوما تجذبني إلى فورة ينابيعها، حضور في كل إبداع وإن كان حضورا غير مباشر، وربما كان الفرق واضحاً، بين لغة علمية بحتة ولغة أدبية تشكلها الحروف.
التركيز حالة تتوافق والموسيقى. تجلب السكون والسكون يجلب التأمل والتأمل يجلب اللاشعور والشعور فيحدث الهيجان والفوضى فعلا وكتابة وحواسا ومعنى. أتجه نحوها كليا وتلتفت إلى كل شيء فيّ. تلك هي الموسيقى الصديقة الحسية للمعنى.
هدى الدغفق - الرياض