ترتبط الخطابات بمنشئيها والمتكلمين بها، فتعكس طرائق تفكيرهم وثقافاتهم وتتلون بمقاصدهم وحاجاتهم وتفصح عن أشكال تواصلهم واختياراتهم، فالخطاب صورة المخاطب ومنجزه الذي يفصح عن اختياراته وتفضيلاته. وقد اغتنت مسارات تحليل الخطاب بنظريات حديثة قاربت الخطاب من زوايا مختلفة؛ ففحصت أنظمته الإقناعية وأبرزت أدواته الحجاجية وجلّت لنا كثيرا من منطقه الإقناعي. إن فهم المنطق الحجاجي لأي خطاب يقودنا إلى إضاءة الخصائص الثاوية في عقل منشئه والمتكلم به، وهي خصائص تنشد في جزء كبير منها إلى الأنساق الثقافية والاجتماعية التي تتمايز بها المجموعات البشرية عن بعضها، فبناء مناويل حجاجية يستدعي من المتكلم مجموعة من الاختيارات والتفضيلات التي تتأثر سلبا أو إيجابا بخصائص ثقافية كامنة في أعرافنا وتقاليدنا وأنظمتنا الاجتماعية فخطاب العربي يضمر بناء حجاجيا يتوافق عادة مع مشاغل المخاطب العربي وطريقة تفكيره ومناطق اهتمامه، ومثل هذا ينسحب على الأمم الأخرى التي تمتلك ولا شك ثقافات خاصة بها. وعلى هذا يجوز أن نقول أن للعرب هوية خاصة بهم في بناء خطابهم الحجاجي، أي أن لهم تفضيلات من الأدوات الإقناعية يكثر ورودها في أقوالهم وهذا ما عنيته بـ(هوية) التي تعني مجمل السمات والخصائص التي تميز مجموعة بشرية عن غيرها. فماهي الاختيارات الحجاجية الأكثر ظهورا في الخطابات العربية ؟ لا ريب أن الإجابة على مثل هذا التساؤل يحتاج إلى استقراء علمي يفتش في الخطابات المختلفة بحثا عن مشترك في بنائها الحجاجي، لكني هنا أشير إلى بعض التقنيات الحجاجية الشائع ورودها في الخطابات العربية وخاصة القديمة منها. وأعني بالتقنيات الحجاجية تلك الأشكال أو المواضع التي يعتمدها المتكلم الصانع لخطابه بقصد الاستدلال بها في دعم أطروحته أو دحض الأطروحة المضادة وذلك لإيقاع التصديق والقبول، وقد جهد عدد من الباحثين الرواد في حصر أكثر أشكالها وتجريد أنماطها فكان أهم تلك الجهود : ما جاء به مصنف بيرلمان وتيتكاه (الخطابة الجديدة) حين عقدا لهذه الحجج فصلا كاملا وجعلاها قائمة في جوهرها على زوج الفصل والوصل. والقارئ لنتائج بعض الدراسات الأكاديمية التي استقرأت مجموعة من الخطابات العربية وفحصت أبنيتها الحجاجية يجد ظهورا واضحا للحجج التي تستدعي القيم، كما نلحظ كثرة مفرطة لمواضع حجج السلطة والحجج البرقماتية، بينما تراجعت مواطن الحجج شبه المنطقية التي تستدعي اللزومالمنطقي والعلاقة الرياضية.
فالحجج التي تستدعي القيم تستعين بالمشترك المجمع عليه في ثقافة المتلقي وثوابته القيمية والمتكلم المستعين بها يحاول وصل دعواه بقيمة أو خلق أو فضيلة، وهي قيم تلقى قبول الناس واتفاقهم وهذا ما يمنحها سلطة التأثير عليهم واستمالة موافقتهم، وذلك نحو قيم الجمال والحق والخير وما يشبهها، فيكفي أن يربط المتكلم حديثه بإحدى هذه القيم ليكتسب قوله قوة إقناعية، فقولك هو الحق الذي يجب أن يتبع وقول الآخر الباطل الذي ينبغي الإعراض عنه . أما حجج السلطة فهي صنف من الحجج المؤسسة على بنية الواقع وهي تعتمد على استدعاء نفوذ شخص أو مجموعة أشخاص للإقناع بأطروحة معينة والاستعانة بحجج السلطة نمط من الحجاج الموجز والفعّال، إذ إنها تستدرج اعتراف المخاطب بسلطة معينة لتورطه في قبول الدعوى. وتختلف السلطة في هذه الحجج فقد تكون «سلطة الإجماع « أو «الرأي العام» أو «العلماء» أو الفلاسفة»، وقد تأتي السلطة من ذكر أشخاص معينين بأسمائهم لهم قبول في ثقافة السامع ومحيطه. وتقوم الحجة البرقماتية على ادعاء المتكلم تقويم عمل ما من خلال الكشف عن نتائجه وعواقبه سواء الإيجابية أو السلبية، كأن يحث المتكلم مخاطبه على القبول برأيه من خلال ربط ذلك بالعاقبة الحسنة والمآل الجيد، أو عكس ذلك كأن ينفر المتكلم مخاطبه من أمر ما فيخوفه بالعقاب المستقبلي والعاقبة السيئة. والسؤال الهام هنا: لماذا تكاثرت هذه الحجج الثلاث على تفاوت بينها في خطاباتنا العربية حتى جاز لنا أن نراها علامات مميزة تخولنا بدء الحديث عن هوية إقناعية عربية تخص ثقافتنا وأنظمتنا التواصلية. لا شك عندي أن الإجابة على مثل هذه التساؤلات يجب أن يمر بدرس بنية الفكر العربي وبيئاته الاجتماعية وأنساقه الثقافية وحاجاته الاقتصادية ، فقد بنى العربي القديم كثيرا من أنظمته على حاجاته وظروف عيشه وطبيعة بيئته، فكان بسيطا بعيدا عن التعقيد الفلسفي وترف الاستدلال المنطقي، وهذا ما جعله يذوب في نظام القبيلة ويحتمي بظلالها ويتقيد بأنظمتها وقيمها ويقدم لها الطاعة العمياء حتى لو قادته إلى الخطأ، وبيت دريد بن الصمة الشهير خير دليل على ذلك :
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت.. وإن ترشد غزية أرشد.
ففي هذه البيئة تكتسب القيم نفوذا كبيرا وتتحول إلى أدوات إقناعية ذات فعالية مؤثرة ؛ لأنها تصبح اختيار الأكثر والنسق السائد، وهذا ما أكسب العادات والتقاليد في مجتمعاتنا سلطة نافذة يصعب على بعض الأفراد تجاوزها واختراقها. ومثل هذا يقال في تبرير كثرة مواضع حجج السلطة، التي تتأسس على إذعان المخاطب وسرعة قبوله، ففي هذه البيئات يكفي أن يقرن المتكلم اسم عالم مشهور أو متخصص معروف بقوله حتى يبادر المخاطب إلى الاقتناع. والأمر قريب من ذلك في الحجة البرقماتية التي تتأسس على تغذية نازعين من نوازع الإنسان هما الرغبة والخوف، وهي من مواضع استجابة المخاطب العربي ومواطن اهتمامه، فهو يتأثر بالخطاب الذي يتكئ على التحذير أو الترغيب.
د. عادل الغامدي - الرياض