والحقيقة أني وجدتُ في كثير من المراجع تداخلاً واشتباكاً وتمازجًا ظاهرًا بين (المبادئ الأساسية للفلسفة الطبيعية)، و(التطبيقات التربوية للفلسفة الطبيعية)، وبناء على ذلك بذلتُ جهدًا في استخلاصها جنبًا إلى جنب، ثم لخصتها أيضًا ورتبتها بصورة تُبرز أبرز تلك المبادئ والتطبيقات، فجاءت هكذا في هذه الزبدة المضغوطة، التي قلمتُ أشجارها ليسهل رسوخها في الأذهان.
ترتكز الفلسفة الطبيعية من الناحية التربوية وغيرها على أسس راسخة، أولها في تقييمي (خيريّة الإنسان) وهذا أساس مهم يكرره فلاسفتها بعدة صياغات، فغالبهم يُجمع تقريبًا على أن الأصل في الإنسان الخير، بعكس الفلاسفة الذين يرون أن الأصل فيه الشر، أو الذين يرون أن الإنسان في أصله خليط من الخيريّة والشرّية.. ومن اقتناعهم هذا بأن الأصل في طبيعة الإنسان أنه خيّر، تفرعتْ قناعات أخرى كثيرة عنهم، منها مثلاً الحرص على اتباع أسلوب (مراعاة الفطرة الخيّرة) في تربية الأطفال، وتجنب أساليب التخويف والضغوطات والتهديد والوعيد والعقوبات المضرّة بالأطفال.
إذن من أهم تطبيقاتها التربوية أنها تهتم بطبيعة الطفل بوصفه خيّراً في بداية قدومه للحياة, فالتربية - عندهم - يجب أن تسلط الضوء على طبائع الأطفال أولاً, وعلى المربين أن يتقيدوا بذلك؛ لأن المعلم - بحسب الفلسفة الطبيعية - يجب أن يكون محايدًا ومعاوناً فقط للتلميذ، خصوصاً الطفل الصغير، بحيث يوفر له مناخًا مناسبًا وفرصًا قوية لتنمية طبيعته الخيّرة.
ولذلك أوجبوا أن يتصف الأساتذة المربون بالإخلاص, والصبر, والصدق، والأمانة والنزاهة، والعدل، والحكمة وعدم التسرع في الحكم على الأمور.. فهذه الفلسفة من أشد الفلسفات معارضة لاستخدام أساليب العقوبة خصوصاً (الضرب) بل الواجب عندهم أن يترك المربي العقاب للطبيعة، كما لو كان نتيجة طبيعية لسوء سلوكيات الطالب الذي يرتكب المخالفات.
كما حثتْ هذه الفلسفة على تعزيز قاعدة (الاعتماد على النفس) في التلاميذ وغيرهم من أفراد المجتمع، فهي فلسفة تشجع الإنسان على حسن التصرّف وتنمي فيه القدرة على إدارة نفسه، خاصة داخل المدرسة.. وهذا يترابط مع قناعات أخرى عند الطبيعيين، كرفض واعتراض الكثيرين منهم على (سيطرة الدولة على التعليم) بشكل كامل، فهم يفضلون دائمًا إشراف أو إشراك الجهات الخاصة الأهلية وأهالي الأطفال في تربية وتعليم أبنائهم بشكل مباشر.
أما بالنسبة للتلميذ، فعند هذه الفلسفة رغبة كبيرة في مراعاة ميول الأطفال، وينطلق هذا الميل من رأيهم أن التعليم عملية طبيعية تهدف إلى دفع الفرد للنمو الطبيعي ومعرفة ميول الطفل تسهل تحقيق هذا الهدف.. إن التلميذ عندهم هو (محور العملية التربوية)، بخلاف الفلسفات الأخرى التي ترى أن المعلم هو مركز هذه العملية ومحورها.. وخلاصة نظرتهم للطفولة أنها مرحلة حياة العواطف والميولات واللعب والمرح والأحاسيس المختلفة، لا حياة الجديّة والمعارف القوية.
ومن أبرز مبادئ الفلسفة الطبيعية أيضًا إيمانها الراسخ بالعالم الواقعي المحيط بالإنسان، والذي يتعرّف عليه الإنسان بحواسه قبل أي شيء آخر؛ بالإضافة إلى التجارب والدراسات والخبرات الاجتماعية، فهذه الفلسفة شديدة الارتباط بالنواحي التجريبية والحسية.. وفي هذه النقطة نجد (الفلسفة الطبيعية) التي نحن بصددها تتقاطع وتنسجم بلا شك مع (الفلسفة الواقعية)، التي تحدثنا عنها في المقالات القريبة السابقة، بوصفها المدرسة المقابلة لمدرسة الفلسفة المثالية.
كما أن الفلسفة الطبيعية من أكثر الفلسفات مناصرة لضرورة (الاختلاط بين الجنسين)، خصوصاً في التعليم وأماكن العمل، وحجتهم في هذا أن للمبالغة في الفصل بين الجنسين أضرارًا كبيرة على المجتمع، أهمها مثلاً عدم النمو السليم لأفراده.
ومن أبرز ملامح منهجهم التعليمي، أنهم يرون من الأفضل تدريس كثير من العلوم بشكل ميداني لا كتابي فقط، ومن ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - مادة (الجغرافيا) التي يدرسونها عن طريق الرحلات والمشاهدات التطبيقية، فلا يكتفون بالكتب الجغرافية وحدها.. وقسْ على ذلك الكثير من المواد الأخرى.
ويرى روسو أن (تجربة الطفل) أهم من الكتاب المدرسي لتلقي المعرفة في هذه المرحلة العمرية؛ فالطبيعة هي الكتاب الوحيد القادر على تعليم وتوجيه الطفل وتثقيفه بمختلف المعارف.. ومن هنا أكد الطبيعيون على أن وظيفة المعلم لا تتجاوز الإشراف على رعاية الطفل وتوجيهه نحو النمو الطبيعي السليم, وهذا التوجيه يجب أن يتم دون ضغط أو إجبار أو إكراه.
يهتم الطبيعيون أيضاً بموضوع «اللعب» كثيرًا، وهذا نابع من اقتناعهم أن الطفل أثناء اللعب والمرح واللهو البريء يكون ظاهرًا واضحًا من ناحيته الطبيعية من جهة، ومن جهة ثانية: يرون أن اللعب هو الوسيلة الطبيعية السليمة لتفريغ ما قد يتعرض له الأطفال من كبت، كما أنهم يحذرون بشدة من المبالغة في (مساعدة الطفل في نشاطاته)، فيجب عندهم عدم القيام بأي عمل للطفل إذا كان قادرًا على القيام به بنفسه؛ لأن السبيل الأمثل هو ترك كل طفل ينمو حسب طبيعته الخاصة به، لا حسب ما يرسمه له غيره من الناس في مجتمعه.
يقدم الفلاسفة الطبيعيون أسلوب (الخبرة) على الأساليب (التلقينية الشفوية), بل وصل الحال بكبيرهم «روسو» في بعض مراحله، إلى رفض إعطاء أية دروس شفوية للأطفال نهائيًا، وأن يتم التركيز على تعليمه الأشياء بالخبرة قبل تحفيظه الألفاظ النظرية، فمشاركة التلميذ وبخاصة الطفل في العمل الميداني والتجريب في المختبرات والمعامل, هو الطريق الأفضل في التربية والتعليم عند الطبيعيين.
وقد يصح القول إنْ قلنا: إنَّ الفلسفة الطبيعية أمٌ ولدتْ من رحمها كثير من الفلسفات، فكثير من أسس عدد من الفلسفات الأخرى تأثرت بأسس الفلسفة الطبيعية، التي يؤكد فلاسفتها على أن الطبيعة هي الشيء الوحيد الحقيقي في هذا العالم، فكل شيء في الحياة يتحرك وفق قوانينها، وكل ما يقوم به الإنسان - مثلاً - ليس في النهاية إلا جزءاً من الطبيعة.
وتتقاطع الفلسفة الطبيعية - في نظري - مع (الوجودية) التي تناولتها بالتفصيل في سلسلة مقالات سابقة، ومع غيرها من الفلسفات المهتمة بالأفراد، حيث إن الكثير من فلاسفة هذا التوجه الطبيعي يولون الفرد عناية كبيرة، فأهميته عندهم تفوق أهمية المجتمع في كثير من الأحيان؛ فتركز الفلسفة الطبيعية على الفرد وأهواء نفسه وميولاته الفطرية، فهم يرددون مثلاً أن الطفل يخرج إلى الحياة خيرًا، فالأصل في البشر الصلاح والخيرية في بداية قدومهم للحياة؛ ولكن المجتمعات هي التي تغيّر فيهم وتبدلهم في كثير من الأحيان، وفق ما يسود فيها من أمور اجتماعية كثيرة يطول شرحها، ومن كل ذلك وصلوا إلى أن وظيفة التربية الصحيحة هي الفهم الصحيح للقوانين الطبيعية الموجودة في الناشئة مثلاً وآلية عملها، ثم إبرازها وتوجيهها إلى الاتجاهات النافعة لهم أولاً ولمجتمعاتهم ثانيًا.
ونتج عن ذلك اقتناع أنصار هذا التوجه الفلسفي بضرورة التخطيط للمناهج بشكل تدريجي مرتب حسب قوانين النمو والتطور الطبيعيين عند التلاميذ، فالمناهج لا بد أن تكون - في نظرهم - مشتملة على ما يزيد وينمي الخبرات والتفاعلات مع الطبيعة، بصورة تساهم في التطور التصاعدي المتوازن الصحيح لقدرات العقول والأجسام جنبًا إلى جنب.
فالتربية السليمة عندهم تعتمد على إكساب الصغار الخبرة المباشرة التي تنتج عن احتكاكاتهم المباشرة بالطبيعة وتفاعلهم معها؛ ولذلك اهتموا أيضًا بموضوع (الحريات) اهتمامًا فائقاً، فلا يصح عندهم إرغام التلاميذ وإلزامهم بآراء معينة؛ لأن النتيجة ستكون سيئة على شخصياتهم واستقرارهم النفسي.
بالإضافة إلى نقطة هامة مرّتْ أعلاه، ويحسن بنا أن نعود إليها لمزيد من التأكيد عليها، وهي أن «الفلسفة الطبيعية» في جملتها تحث دائمًا على اختلاط الجنسين في التعليم وغيره كما أسلفنا؛ وحجتهم أن هذه هي الطبيعة، التي لا ينبغي التصادم معها، مع ضرورة الانتباه إلى أن بعض المنتمين إلى هذا الاتجاه الفلسفي قيّدوا موضوع الاختلاط هذا ببعض القيود نتيجة لما حصل من سلبيات في بعض الأزمنة والأماكن تحت تأثير ظروف معينة.
ونختم بقضية كبيرة مفصلية ثقيلة الوزن في مكيالي الخاص، فاتتني الإشارة إليها في الجزء السابق، وهي أننا إذا قارنا بين (حركة التنوير) المعاصرة لفيلسوفنا الذي نحن بصدده «جان روسو» فسنجد أن موقفه من (الدين) كان مختلفاً وأكثر عقلانية واعتدالاً - في نظري - من «فولتير» وأصحابه رواد حركة التنوير، حيث كان فولتير وأصحابه يتحركون بدوافع أو قناعات ملحدة، لا ترى في فكرة الدين إلا الوهم والخداع والخرافة وكذب الكهان وغشهم... إلخ، وبالتالي عملوا بوضوح على القضاء على الدين بوصفه باطلاً ووهمًا.
أما روسو، فمما يُحسب له بلا شك - باعتباره رائدًا من رواد الفلسفة الطبيعية - أنه توازن في نظرته إلى الدين واعتدل أكثر من فولتير وجماعته، رغم اتفاقه معهم في رفض الكثير مما في الدين المسيحي في تلك الحقب، إذ إنه كان يرى أن الدين هو الدين الطبيعي فقط، الذي يجمع بين ما ورد من (الفضائل والقيم الحسنة العامة) الموجودة في الديانات وبخاصة المسيحية، وبين ما ورد في غيرها من الأخلاق الطبيعية الأخرى، حيث كان يؤكد - ومعه الكثيرون من أمثاله - على ضرورة التخلص من بعض ما يعدّه خرافات في بعض المعتقدات الغيبية الميتافيزيقية في الأديان؛ ولكنه لم يُطالب بإلغاء الدين والقضاء عليه بالحدة الواضحة عند فولتير وبعض الملاحدة مثلاً.. ودمتم سالمين.
وائل القاسم - الرياض