طاهر زمخشري
195 صفحة من القطع الكبير
من أشجان (أشجان هندي) إلى معازف أشجان زمخشري تأخذنا سوياً الرحلة هذه المرة.. إلى مرحلة ذات شجون نتلوع بها ونتلفع، وكأن وتر الحياة ووتيرها لا تنفك شاكية وباكية. هكذا الإنسان المهموم في حياته يعزف على وتر حزين إيقاعه حزين ووقعه أنين.. لا يملك أمام همه إلا اللجوء إلى ربه في تبتل وتهجد:-
رباه كفارتي عن كل معصية
اني أتيت وملء النفس إيمان
وقد قطعتُ خضماً والعباب به
كبائر. وأنا في التيه سفان
فالبحر مضطرب. والموج ملتهب
والنار من خافقي خزي وخسران
انها الأوبة والتوبة.. والاعتراف بالزلل.. وانها الفضيلة أن نقف أمام محراب الله نسأله الغفران..
رباه هذي يدي تمتد ضارعة
من بعد أن مسها بالضر حرمان
رباه جاءتك ترجو منك نافلة
وانتَ أنت لمن يرجوك معنوان
فارو العطاش كما عودتنا كرما
فأنتَ بالعفو للداعين رحماك
بهذا الإيقاع الحزين تحركت قيثارة شاعرنا تبث شكواها. ونجواها أملاً في النجاة.. ونقاء في الحياة.. كلنا خطاؤون يا راحلنا الكبير..
«اسكني يا نفس» دعوة للمصارحة.. ومصافحة الحلم.. بعضاً من قصيدته الطويلة:-
كم حملت الحب قيثارا. وكم
رحت أشدو بالهوى المستعذب
ونثرت الحب في رجع الصدى
مَزِقا نفاثه باللهب..
لهف نفسي وهي في تياره
تترامى في اللظى المنسكب
فإذا ضاقت به صحت بها
اسكني يا نفس لا تضطربي
لهف نفسي كلما همّ بها
عاصف أرهف حدَّ المخلب
سخرت منه ومن غلوائه
فتولى لائذاً بالهرب..
يريد لنفسه الثائرة ثبات الموقف.. والصمود أمام عاصفة حب لاهب خاف على قلبه من لظاه ومن احراقه.. زمخشري يحمل حساً معذباً.. نقرؤه في مجمل دواوينه.. هكذا جاءت تجربته مع حياته ملوعة.. وملفعة بسواد الألم.. هذه المرة يخاطب شجونه التي لا تنتهي عند حد، ولكن بنبرة التحدي المؤمن بنصيبه:-
أشعلي النار في دمي يا شجوني
لن تثيري مهما عصفت ظنوني
مزقيني ان شئِت إني أصبحت
قويا بمعطيات اليقين..
لم أعد أرقب المخاوف في در
بي. ولا هول عاصف مجنون
قد نصبتُ الرضا منارا على الد
رب. وفي نوره بسطت يقيني
كيف أخشاكِ يا شجوني ومنها
ريّ حسي. وخافقي المحزون
صوته الواثق بنفسه وبقوة تحمله أشبه باطفائية تخمد أنفاس شجنه الذي ما برح يعتمل في داخله دون أن يقوى على هزيمته لأن عزيمته أكبر..
طالب شجونه بالصمت.. وها هو يطالب رياحه بالسكوت.. وفي كلتا الحالتين يقف وقفة مقاوم يستسهل الصعب:-
يا رياحا اعصارها في ضلوعي
المقادير سهمها لا يحابي
كاد يقضي عليَّ. لكن صبري
ردَّه راغما على الأعقاب
انا فوق الإيمان عندي يقين
انما الحب نعمة الوهاب
فإذا الفرحة التي تطفئ الأ
شواق. تطوي الفراق طي الكتاب
كانت قصة حب واشتياق بعد بعاد وفراق..
شاعرنا يحارب على أكثر من جبهة.. وبأكثر من سلاح.. طالت الهزيمة في معركة النفس.. وقاوم في معركة الرياح. وذا هو يشهر سيف شعره في وجه الجراح.. فهل ينتصر؟!
اسكتي يا جراح. أوْ لا فبوحي
لن يموت الهوى بقلبي الجريح
فهو إن ذوَّب الجوانح مني
سوف افديه بالدم المسفوح
وبرغم الذي أكابده منه
لست أرضى بديله فاستريحي
لا تساوي الحياة عندي هباء
إن خلت من لجاجة التبريح
هذه المرة لم ينتصر.. ولم يُهزم.. وانما عملية مصالحة أشبه بهدنة دائمة بين قلبه وجرحه.. في الأفق معركة قادمة قائمة سلاحها ابتسامة مختصرة:-
زمجري يا شجون في الطيات
سوف اطفي لظاك بالبسمات
وسأحيا كلما تريد الأماني
ضاحك السن مشرق القسمات
أطعن الصعب في التصميم وامضي
في طريقي لمأربي بالثبات
فالسراب الذي حسبت رواء
زادني حرقة أذابت لهاثي
حسنا هزأ بسرابه.. طعن الصعب في مقتل دون طلقه.. ابتسم شاعرنا وانهزم الخصم..
شاعر الوجد يطالب نفسه بالبوح بعد طول عناء.. وان تستريح.. فهل وافقت واطاعت الأمر.. أم أنها تمردت؟!
كنت ألتاع بالأسى يتلظى
وأداريه في الفؤاد الجريح
وعلى الصمت قد عبرت الليالي
وسفيني لماَّ أريد طموحي
فإذا بالحياة تبسم حولي
بالأماني. وفيضها الممنوع
وإذا بالرواء منها سأحيا
كيف لا افتدي هواها بروحي؟
ظننت نفسه تمردت عليه.. وإذا بها غردت واستجابت له..
رثائية مُرَّة وحارة أهداها لابنته سميرة كعزاء في وفاة زوجها، اجتزئ منها هذا المقطع المؤثر:-
لو يعيد البكاء نفسا لساومتُ
على عوده بفيض السحاب
من دماء تشح من قلبكِ الذاوي
بدمع معربد كالعباب
بيد ان الذي مضى يعود مع الأ
يام ذكرى تطوف بالأحباب
ورثائية ثانية إلى خلود العروس التي زفت إلى قبرها:
أطفئت بسمة فضاءت عيون
بدموع يجود منها الهتون
يوم غال الردى التي تمنح السحب
فذابت من البكاء العيون
قد مشت للربيع قبل أوان
فإذا بالجمال فيها فنون
فإذا بالخلود أعذب لحن
كان قيثارة المجلي المنون
يحدثنا شاعرنا عن الصبر.. وقد حدثتنا عنه من قبل المطربة الرائعة نازك حين قالت في أغنيتها الجميلة:
يا عطارين دلوني
الصبر فين أراضيك
ولو طلبتوا عيوني
خذوها بس ألاقيه
فهل مارسه؟.. أم أنه مركب صعب المراس؟:-
بحد الصبر أضرب في الحياة
واجتاز المخاطر كاشرات
فإن زأرت حيالي نائبات
رماها حد صبري للشتات
وطاف بها على الدنيا جليدا
وعاد بها على متن الثبات
فلا الأيام تبلي من عرامي
ولا الآلام توهن من قناتي
قالها بمنطق الواثق من جلَده وتحمله.. حسناً فعل.. وعن الصباح الفريد غرَّد بنشيده:-
دوب نفسي. وخفق قلبي يُشيد
والمزامير بالحنايا تجود
تشعل الحب في الجوانح ناراً
تتلظى وفي الجفون الوقود
فالهوى بالحنين يكوي فؤادا
والمُعنَّى من لذعه يستفيد
ذاب وجد. وكاد يفنى حنينا
والبقايا في ثوبه تغريد
لشاعرنا معزف يوقع على أوتاره أشعاره.. بكل عذاباتها وعذوبتها:-
معزفي يا حنون زد في احتراقي
فعذابي في الحب حلو المذاق
ما سعدنا من الرضا بلقاء
أو شقينا من حره بالفراق
نحن في الحالتين قربٌ وبعدٌ
نتساقى من صفوه الرقراق
في شفاهي الألحان وهي شظايا
أنتِ يا نار لوعتي لا تطاقي
ويمضي في ايقاعات معزفه الرائعة:
اشعلتها الظنون وهي حيارى
بين أهلي. وجيرتي. ورفاقي
كلما جئت استريح لكهفي
في ليالي أمسكت بخناقي
يبدو أن الشطر الأخير تنقصه كلمة (قد) أمسكت..
ومن المعزف إلى الناي لقد ولج مدرسة الموسيقى الشعرية يعزف إلى أوتار عودها وقيثارها بكل هواجسه:-
يا ربيعي العزاء فيك صمود
يتحدى بقوة من إهابي
فلساني الذي قرضت بفكي
لم يزل رجعه يعيد خطابي
وهو للحب في المحافل ناي
وبأصدائه انتشى أحبابي
كيف لا تسمع الليالي لحوني
وهي ينساب بالفؤادي المذاب؟
الصحيح تنساب لا ينساب.. ربما خطأ مطبعي يمكن تداركه..
وجاء دور القيثارة.. صوت حزن يسكن الأعماق دون استئذان..
هي قيثارتي ومزمار تغريدي
ومن رجعها ملاحن عودي
كلما طاف بي على الدرب اعصار
وألقى بخاطري للنكود
طالعتني الرؤى بما يثلج الصدر
وجادت أنفاسها بالنشيد
ولأنه يستطيب رجع ألحانها الحزينة وقع لها من جديد نشيدا غريدا ثانيا له نفس النكهة والمذاق اتجاوزه.
أخيراً وقف شاعرنا مستنداً على حائط الصمت وملء مآقيه دموع لا تبرح مكانها:-
فيك يا صمت في المآقي دموع
لفظتها من الحنايا الضلوع
جمدت لا تسيح فهي شظايا
من حريق داريتُ وهو فظيع
كنت أمشي به.. ويأكل نفسي
لست أشكو من جوره أو أذيع
وكأنما شاعرنا يسترجع في ذهنه مقولة ذلك الشاعر الذي أبت عليه نفسه أن يرى الشامتون ضعفه ودموعه فقال مقولته المشهودة:
وتجلدي للشامتين أريهموا
أني لريب الدهر لا أتضعضع
هكذا جاءت وقفة شاعرنا شجاعة تملك روح التحدي:-
وإلى الصمت قد أبحت بما بي
وعلى الجفن من شجوني نقيع
ومن الغدر. والجحود سهام
راشها للفؤاد فيَّ الوضيع
شاعرنا أفصح عن السبب.. إنسان قابل الإحسان بالإساءة.. والوفاء بالجفاء. كشفت الأيام سوء طويته ونيته:-
فأرتني الأيام خبث نواياه
واجرى مدامعي التلويع
ما تشكيت من رزايا ترامت
بل تشكى من هولها المفجوع
مازال يلوذ بصمته دون شكوى:-
كيف أشكو ولا تزال حياتي
في ربيع به الأماني تضوع
الناس غاية لن تدرك وسط غابة مليئة بالفضول.. وبالعذول.. لا أحد في منجى من ألسنة الفضوليين والحاسدين.
الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 ـ فاكس 2053338