يعد استشراف المستقبل ظاهرة من الظواهر التي ظهرت في الأدب، وبشكل خاص في الشعر، ويقصد بالاستشراف مخالفة الشاعر سير الزمن؛ لتوقع أحداثًا مستقبلية قبل وقوعها؛ فمن القصائد التي استشرفت المستقبل في شعرنا العربي الحديث، قصيدة (إرادة الحياة) لأبي القاسم الشابي التي استشرفت ثورة الشعب التونسي ضد الاستعمار الفرنسي، وقصيدة (لا تصالح) لأمل دنقل التي استشرف فيها معاهدة كامب ديفيد قبل وقوعها.
وعلى صعيد الشعر في المملكة العربية السعودية؛ فإننا نجد الشاعر سليمان الفليّح يستشرف ثورات الربيع العربي في قصيدة (الأزمنة) التي كتبها سنة 1981م، أي قبل وقوع موجة الثورات العربية بثلاثين سنة، حيثُ يقول عن المدن العربية:
هذي المدن اللائي فيها اللقمة
تختنق في أفواه بنيها الكلمة...
لا شيء تبدل
في هذي المدن اللائي فيها يتعلّم منذ الصغر بنوها
مفهوم الثورة والثورات
كي تحصدهم حين بلوغ الواحد منهم سن الرشد الثورة
بالرشاشات...
ونجد عبد الرحمن العشماوي يستشرف الثورات العربية - أيضاً- في قصيدة (خلا لك الجو) التي كتبها سنة 1991م، حيثُ يقول:
سمعت بين الناس قائلاً يقول:
الجدب سوف يأكل الحقول
والوهم سوف يأكل العقول
وسوف تأتي سنة
ليس لها فصول
خريفُها ربيعُ...
وسوف يعقد الذبابُ جلسة انتخاب
وسوف يحدث انقلاب
وعندها سيكثر الضباب...
لقد استشرف الشاعر سنةً يتحول فيها فصل الخريف إلى ربيع، وهذا ما حدث سنة 2010م، حيثُ اندلعت موجة الثوراث العربية من أرض تونس الخضراء في فصل الخريف، بعد انقلاب الشعب الذي رمز له في القصيدة بـ(الذباب) على الحاكم المتغطرس؛ ليكثر الضباب المتمثّل في الثورات القادمة. أما على الصعيد الذاتي؛ فنجد الشاعر غازي القصيبي يستشرف موته في قصيدة (حديقة الغروب) التي كتبها سنة 2005م، عندما وظَّف عنصر الغروب بطريقة فلسفية يستشرف من خلاله انتهاء سنوات العمر، وذلك بعد هجر الأصحاب إما بالموت وإما بالسفر، حيثُ يقول:
هذي حديقة عمري في الغروب.. كما
رأيتِ... مرعى خريفٍ جائعٍ ضارِ
الطيرُ هَاجَرَ.. والأغصانُ شاحبةٌ
والوردُ أطرقَ يبكي عهد آذارِ...
ومثله الشاعر سليمان الفليّح في قصيدة (عواء الذئب الضّجر)، عندما وظَّف دلالة (العواء)، بطريقة إيحائية توحي بالنواح على الميت، ويستشرف موته في العاصمة الأردنية عمّان، حيثُ يقول مخاطبًا صديقه:
ونفترق
لنتفق على اللقاء
لربما لو مرة أخيرة في العمر
على سواحل الدمام
أو ربما نموت
في الشام أو بيروت أو عمّان...
وللاستشراف الشعري عدة أنواع منه: استشراف ذاتي وغيري، واستشراف سياسي، واستشراف أدبي، وهذا ما سندرسه في بحثنا للماجستير إن شاء الله، وهي دراسة تقوم على المنهج التأويلي، الذي يهتم بتأويل النص وتفسيره، مستعينة في ذلك بدراسات سابقة مثل: (الاستشراف الروائي) للباحث: عبدالله صفية، وكتاب الدكتور صبري حافظ (استشراف الشعر دراسات أولى في نقد الشعر العربي الحديث)، و(استشراف النص) للدكتور عبدالرحمن العكيمي وغيرها.
هيفاء حمد البصراوي - أبها