وفيق المنذر تعامل مع الجرانوليت رغم خشونته وطبع حضور المرأة على جل أعماله
التنوع في الخامات والبحث والتجريب من قبل الفنان التشكيلي مطلب عصري تجاوز به الفنان المعاصر حدود التوقف عند خامة معينة كالألوان المائية أو الزيتية أو التمبرا وصوبلا إلى ما تم تصنيعه اليوم من خامات تجمع كثافة الألوان الزيتية وشفافية الألوان المائية يمكن استخدامها على قماش الرسم.
هذه التجارب منحت الفنانين فرصة الانطلاق إلى عالم مفتوح تجاوزت به التقنيات التقليدية إلى خبرات تعتمد على تنوع الخامة التي تساعد في تنفيذ الفكرة، وقد حاول الكثير من الفنانين من ابتكار العجائن وأضافوا العديد من الوسائط كالحديد والخيش والورق في أعمال الكولاج التي تعد بوابة الانتقال إلى فضاءات الاكتشاف والإضافات.
اليوم يسرنا أن نقدم فناناً من مصر لأمرين.. أولاً للتذكير به لمن يعرفه من الفنانين العرب والتعريف به لمن يجهله رغم شهرته في بلده.. الفنان وفيق منذر الذي اشتهر بالرسم على لوحة طليت بالجرانوليت الذي يتشكل من عدد من المواد التي تظهره خشن الملمس.
ريادة وهوية واستلهام للتراث
وفيق المنذر رائد الفن (الجرانيوليت) الخامة التي أصبحت ملازمة له وجزءاً من عطائه.. خلال حياته الفنية الذي رحل في عام 2014م بعد ان ترك أرثاً بصرياً يحمل بصمته وهوية وتراث وطنه.. كان يرحمه الله يلتقط مواضيعه من محيطة الشعبي من عادات وتقاليد وأنماط حياة الريف المصري الأصيل، موثقاً ومسجلاً حركات وسكنات ذلك المجتمع المشبع والعاشق للعمل الذي تحول إلى عشق الفنان لهذا الواقع فاستلهمه في أعماله الفنية مانحاً المرأة مساحة كبيرة من تلك الأعمال ببساطتها وجمالها وهيئتها التي تشمل الملابس الشعبية وربطها بالتراث من خلال الرموز التي تحيط بها في كل لوحة وكأنها جزء من تاريخ مصر وثقافته المرأة ودائماً في قلب اللوحة، كما أشار الفنان أ. د. أحمد نوار قائلاً في قراءة لأعمال الفنان وفيق أن اللافت للنظر والمثير للدهشة والتأمل في لوحاته الأخيرة هي ثلاثيات المرأة في اللوحة الواحدة باستثناء عدد قليل من اللوحات بين المرأة منفردة أو امرأتين وعند جمعهم نجدهم يساوون ثلاثة أيضاً، فنجد في بعض اللوحات وحدة النبات ووحدة الطيور، فسمة ما تجمع هذه الوحدات المتكاملة نحو بناء تشكيلي محكم في المجموعة الأخيرة التي استطاع المنذر من خلالها -باقتدار- اختزال الجسد الأنثوي ببراعة وبتحديد خطى أسود في حوار متصل ومتنوع وبإيقاع موسيقي مثير للاستماع كسيمفونية الصورة الذهنية الخالصة والتي ندركها ونحسها بالشعورية الداخلية ولا نراها بالعين.. فهنا نشاهدها ونسمع في آن واحد، وفي المجموعة الأخيرة يظهر ما هو تجريدي مطلق مبتعداً كل البعد عن تجربة الفنان الطويلة، فهل هي نافذة جديدة ومرحلة تحوّل تمتد إلى آفاق أكثر اختزالاً لشفافية الحياة والروح الشعبية التي تميز بها؟! ويتعامل المنذر مع تقنية في غاية الصعوبة، فالمواد رملية ومعالجتها تحتاج لخبرة وحكمة وصبر وقدرة على صياغتها بهذا القدر من الشفافية والصفاء الذاتي الذي يشع طاقة أقرب ما تكون إلى الضوئية بفعل المادة وجيناتها المتفاعلة الدافئة، والضوء الذي يصنعه المنذر هو ضوء جيني يتراص واحداً بجانب الآخر يتحرك ويلتئم ويمتد ويتماسك في جسد الفضاء الذي تحركه درجات التجانس اللوني والتباين في نفس الوقت ولكن في حالة إعمال للطاقة اللونية وموجاتها الحية بفعل الضوء الآتي إليها، وعندما تتحرك الخلية الضوئية في جسد المرأة تكشف هنا عن مدى انصهارها في تقاسيم البناء التشريحي الذي اعتمد عليه المنذرعلمه وإحساسه التشريحي للجسد في توازن وحركة، ولم يتوقف ضوء جينات الجرانيوليت عند هذا الحد كفاعل تعبيري في أعماله بل امتدت الرمزية إلى كثير من الأعمال فالقمر، والطائر، والنبات، والشمس.. كلها مفردات دالة على مخزونه الإنساني والاجتماعي والوطني، فالحالة الشعورية عند المنذر فياضة تنضح في كل أعماله، ويحسب له سيطرته على تقنياته فدقة الفنان وعلمه بتكنولوجيا فنه جزء لا يتجزأ من الإبداع الفني وأخلاقيات الفنان، فالفنان المبدع الحقيقي هو الفنان الذي يمتلك فكره ورؤاه وأدواته في آن واحد فضوء المنذر في جمال نسائه.
ونضيف ما يمكن إضافته حول خصوصية الفنان التي تمثلت في إصراره على أن تكون أعماله حاملة للهوية الوطنية التراثية فهي كالبوصلة التي تشير إلى مصر بكل ما يمكن وصفه بالوجدان والعاطفة والإخلاص لبيئته وأرضه ومجتمعه.وهي سمة الكثير من الفنانين المصريين الذين تمسكوا بهذا التوجه دون تأثر بأي تغريب ثقافي وفني على مدى تاريخ الفنون التي نشئت وولدت في أحضان معلمين أجانب ومع ذلك استطاع الفنانون أن يرسموا خط سير إبداعهم بما يحقق لوطنهم مكانته.
الخامة التي عشقها فأصبحت بصمته الخاصة
خامة الجروناليت التي نعرف أنها خليط بين عدد من المكونات التي يشكل الرمل غالبيتها مع ما يضاف إليها من مواد صمغية لتتماسك تستخدم في طلاء الجدران الخارجية لخشونتها وجد فيها الفنان الراحل وفيق منذر عام 1979م عالماً في جانب الخامة وملمساً يمنح اللوحة إحساساً جديداً يخدم فكرته ومواضيعه ويبرز جمالياتها.. فطوع ألوانه وخطوطه لتنسجم وتتمازج مع تلك الخامة المخالفة تماماً لما تعود عليه الفنانين من نعومة الملمس على (الكانفاس) قماش الرسم والسعي إلى معالجة خشونته ليكون أكثر سلاسة ومرونة للفرشاة والألوان، إلا أن الفنان وفيق يرى أن ملمس وخشونة الجرانوليت تضيف جديداً في أعماله.
** ** **
سيرة ومسيرة
يذكر في الكثير مما نشر عن سيرة الفنان الراحل وفيق المنذر، من مواليد العام 1936، تخرج من كلية الفنون التطبيقية في القاهرة عام 1960، وشغل مناصب إدارية مختلفة ومنها مدير عام الشئون الفنية لقطاع الفنون الشعبية، ثم مستشاراً وخبيراً فنياً لوزارة الثقافة المصرية، وبعد ذلك قام بالتفرغ كفنان تشكيلي ليخرج ما بداخله من لمسات فطرية، تطورت بإطار من الدراسة الأكاديمية المتخصصة، وفي ظل حبه لتجريب الخامات المتنوعة والحديثة.
عضواً في العديد من النقابات، مثل نقابة التشكيليين والمهن التمثيلية والغوري وأتيليه القاهرة، وله مقتنيات في متحف الفن الحديث ووزارة الخارجية ودار الأوبرا وعدد من المجموعات الخاصة، وقد حصل على جائزة عيد العلم عام 1956، وجائزة التصوير في فن الموزاييك في صالون القاهرة عام 1960، والجائزة الأولي في نفس الصالون عام 1962، ثم في الحفر عام 1964 كما حصل على ميدالية ذهبية وشهادة تقدير، من الجمعية العربية للفنون والثقافة والإعلام، وقد أقام الفنان وفيق المنذر أول معرض خاص له في 10-4-56، ثم توالت معارضه في مصر وخارجها.
ولم يكن «المنذر» فناناً تقليدياً، فقد مارس كل الفنون المرئية والمسموعة، وعمل بالتمثيل، والإخراج، وكان أصغر مذيع يقدم ويعد برامج في محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية، حيث إنه كان في حينها مازال طالباً في المرحلة الثانوية.
اقام عام 2007 معرضا تحت عنوان (70×50) أي سبعين عاماً من عمره، وخمسين عاماً هي مشاركاته في الحركة التشكيلية المصرية.
monif.art@msn.com