ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
وإن يرق أسباب السماء بسلم
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذماً عليه ويندم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يُهدَّم، ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يغترب يحسب عدواً صديقه
ومن لا يُكرِّم نفسه لا يُكرَّم
ومهما تكن عند امرئٍ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تُعلم
وكائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وإنَّ سفاه الشيخ لا حلم بعده
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
هذا هو المشهد الثالث والأخير مما وقع اختياري عليه من نص زهير بن أبي سلمى، صاحب المعلقة الشهيرة، حيث تحدث في مشهدها الأول عن الحرب وصورتها القبيحة وآثارها الشنيعة، وأبدع لنا في المشهد الثاني مجموعة من الحِكم الرائعة التي لا يمكن أن تصدر إلا عن شاعر مجرب حكيم، قد عرف الدنيا، وخبر مواقفها، وواجه مصائبها وشدائدها؛ فتعلم منها وأبدعها في أبيات سطرها التاريخ وحفظتها النفوس، فما زالت ترددها حتى يومنا هذا. وشاعرنا الحكيم يستكمل معنا في هذا المشهد سرد حِكمه العميقة وتجاربه الأثيرة؛ فهو في البيت الأول يتحدث عن رؤيته للقدر والموت، وموقفه من المنية والفناء، وهل بالإمكان الهروب والاحتماء من الموت ومن ثمَّ نيل الخلود؟ فيكشف لنا عن أنَّ الموت واقع على الإنسان لا محالة، وأنَّ الفناء حاصلٌ له مهما يكن من أمر، وأنه لا يجدي مع الموت هروبٌ أو فرارٌ أو خوف، فمهما حاول الإنسان أن يفعل فإنه ميتٌ بلا أدنى شك، حتى ولو حاول الصعود إلى السماء؛ لأنَّ الموت قدرٌ محتومٌ على كلِّ مخلوق. وواضحٌ أنَّ هذه الرؤية الإيمانية تتوافق مع التصور الإسلامي للقدر والموت، فقد جاء هذا المعنى في كتاب الله الكريم حيث يقول جل جلاله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ...}.
وإذا كان زهيرٌ فيما مضى من الأبيات قد أكَّد ضرورة بذل المعروف، وشدَّد على أهميته حين أوضح أنه يحفظ كرامة الإنسان، وينجيه من اللوم والذم، ففي البيت الثاني من هذا المشهد نراه يشدد على المكان التي يُبذل فيه هذا المعروف، والجهة التي يُقدَّم إليها هذا الإحسان. فالمرء الذي يودُّ أن يفعل الخير لا بُدَّ أن يوجِّهه إلى أهله وأصحابه وقومه وجماعته؛ فهم أولى الناس بذلك، وأكثرهم استحقاقاً، وهم الذين سيحمدونه على ذلك ويشكرونه؛ ولذلك يبين الشاعر عاقبة مَن يخالف ذلك، فحين يُقدِّم الإنسان المعروف إلى غير أهله ويضعه في غير موضعه لن يجد ذلك الحمد الذي يتوقَّعه والشكر الذي يترقَّبه، بل سيُفاجَأ بعكس ذلك، حيث الحمد ينقلب إلى ذم، والشكر يتحول إلى هجاء.. ومن المؤكد حينها أنه سيصاب بندمٍ شديدٍ وحسرةٍ كبيرة.
ويحلق بنا زهير في فضاءات حكمةٍ جديدةٍ وخبرةٍ عميقة، لكنها في هذه المرة تتصل بالدفاع عن الوطن والقبيلة، وترتبط بالتضحية والاعتماد على النفس في دفع الأذى ومحاربة الأعداء، وعدم انتظار أحدٍ من الخارج ليفعل ذلك؛ لهذا فشاعرنا المتألق يكشف عن العاقبة التي ستكون من وراء ذلك، حيث يبين أنَّ المرء الذي لا يدافع عن وطنه وأهله وقبيلته بسلاحه وعدته وعتاده منتظراً غيره ليفعل ذلك سيكون غرضاً للأعداء وضحيةً مثلى لهم، في إشارةٍ واضحةٍ من الشاعر إلى ضرورة بذل الغالي والنفيس للدفاع عن القبيلة والوطن، وتحمُّل المسؤولية، وإخلاص النية في فعل كل ذلك.
وفي الشطر الثاني يؤكِّد زهير هذه الحكمة، ويعزِّز من هذه الرؤية، وذلك حين يكشف أنَّ المرء الذي لا يبدأ بظلم الناس فإنه بلا شك سيقع عليه الظلم، والذي لا يعتدي على الخلق ويأخذ حقوقهم فليتوقَّع أن يُعتدى عليه ويُؤخذ حقُّه. وهذه الرؤية الجاهلية قد تكرَّرت عند كثيرٍ من الشعراء كما نراها عند عمرو بن كلثوم حين قال:
بُغاةٌ ظالمينَ وما ظُلمنا
ولكنَّا سنبدأ ظالمينا
وهي - بلا شك - رؤيةٌ تصوِّر البيئة الجاهلية، وكيف كان العرب يعيشون آنذاك، وتكشف عن غياب العدل والقانون، حتى أضحت حياتهم كالغابة، يأكل فيها القويُّ الضعيف، والغنيُّ الفقير. وهذا التصور يرجع إلى اعتقاد العرب أنَّ البدء بالظلم والابتداء بالاعتداء يدل على القوة والقدرة والشجاعة، حتى جاء الإسلام وصحح هذه الرؤية الجاهلية، محرِّماً الظلم والابتداء بالاعتداء.
وفي البيت الرابع من هذا المشهد يمتعنا زهير بحكمتين رائعتين، احتلت كلُّ واحدةٍ منهما شطراً مستقلاً. أما الأولى فهي تتحدَّث عن الاغتراب وشدائده وما يمكن أن يحصل عليه الإنسان من ورائه، فيكشف لنا عن أنَّ البُعد عن الوطن وفراق الأهل والعيش في الغربة تؤثر على المرء، وتقلب لديه الموازين، وتخدع عينيه المشاهدُ والمناظرُ؛ فتختلط عليه الأمور، وتلتبس عليه الحقائق، حتى إنه ليرى الصديق عدوًّا والعدو صديقاً؛ لأنَّ الذي يعيش في الغربة بمثابة من يبدأ حياةً جديدة، ومَن هذا شأنه سيكون فاقداً للخبرة ومضيعاً للتجربة، فلا ريب أن اختلطت عليه الأمور والتبست عليه الحقائق، وفي هذا كله تنفيرٌ من الغربة وتأكيدٌ على الرغبة عنها، وإظهار لقيمة الأهل والوطن والاستقرار.
أما الشطر الثاني فقد كشف فيه زهير عن ضرورة احترام النفس حين التعامل مع الناس على اختلاف مستوياتهم وفي جميع تعاملاتهم، فهو يعرف من خبرته وتجربته الطويلة في هذه الدنيا أنَّ المرء الذي لا يكرم نفسه ولا يحترمها فإنَّ الناس بالتأكيد لن يكرموه ولن يحترموه.
وفي البيت الخامس يأتي شاعرنا الحكيم بحكمة أخرى من روائعه وبدائعه، حيث يكشف من خلاله عن طبيعة الإنسان، ويشخِّص أخلاقه وعاداته وصفاته التي جبل عليه، فيبين أنَّ المرء الذي يتصف بخلقٍ معين ويعتاد عادة محددة فإنه من الصعب عليه إخفاؤها عن الناس، أو محاولة التمويه عليهم بالاتصاف بصفة أخرى مغايرة لها، لأن أخلاق الإنسان لا يمكن أن تتغير، ومهما فعل ليحاول إخفاءها عن الناس بشتى الوسائل والطرق فإنه لن يمكنه ذلك.
ثم يحدثنا زهير عن تجربته الطويلة وخبرته العميقة في هذه الحياة من خلال بعض مواقفها، فقد قابل الناس وتعامل معهم وعرف صفاتهم وأخلاقهم، ولأنه حكيمٌ مجربٌ وشاعرٌ مبدعٌ فهو يصوغ لنا هذه التجربة من خلال هذا النص المتألق، حيث يرى البيت السادس أنَّ الناس لا يمكن أن تحكم عليهم من خلال أشكالهم وصورهم وألوانهم، ما دام أنهم ظلوا صامتين لم تنطق ألسنتهم بكلمة أو عبارة، فكم من شخصٍ تُعجب بهيئته وتُشْدَهُ بصورته وتحب شكله، فإذا تكلَّم ونطق وحاور وتفوه فإنَّ هذا الإعجاب الذي كنت تشعر به حياله إما أن يزيد ويكثر فتزداد بهذا الرجل إعجاباً فوق إعجاب، وإما أن ينقص فيتلاشى فيسقط من عينيك ويتضاءل قدره عندك، ولذلك فزهير يؤكد هنا على أنَّ المقياس الصحيح للإعجاب بالرجل من عدمه هو التكلُّم، والقاعدة الأساس في الحكم على قدره ومقداره ومنزلته هي عندما يتحدَّث.
ولضرورة هذه الفكرة وشدَّة إيمان شاعرنا بها نراه يؤكد عليها من خلال البيت الذي يليه، وذلك حين يقرِّر أنَّ الإنسان مكوَّنٌ من شيئين رئيسين؛ الأول: لسانه الذي يتحدَّث به ويفصح من خلاله ويتكلم بواسطته، الثاني: قلبه الذي يعقل به الأمور ويفهم به الأشياء ويستوعب به الحديث والكلام، أما ما بقي بعد ذلك فهو مجرَّد صورةٍ وشكلٍ لا أقل ولا أكثر، فهذا اللحم وذلك الدم الذي تراه في الفتى ليس إلا صورةً وشكلاً متحركاً، أما الماهية الحقيقية له فهي في هذا اللسان وذلك القلب، وما سوى ذلك فهو شكلٌ وصورةٌ لا يعتدُّ به.
ويختتم زهير نصه الحكيم الذي يفيض تجربةً وخبرةً متميزةً بحكمةٍ أخيرة قد أبى إلا أن تكون خاتمةً رائعة لهذا النص المتميز، وهي تؤكد ما سبق أن قرَّره من أن المرء لا يمكن أن يغيِّر من طبائعه أو يبدِّل من أخلاقه، وأنه مهما حاول أن يُخفي على الناس بعضاً من صفاته فإنه لن يستطيع ذلك. فيرى أن الشيخ حين يصل إلى هذه المرحلة العمرية المتقدمة لا يمكن أن يغير من صفاته وأخلاقه، وسيضحي من الصعب عليه أن يفعل ذلك، فحين يكون الشيخ سفيهاً فإنه لا يُتوقَّع أن يحلم فيما بقي له من عُمُر، وعندما يبلغ هذه السن وهو أحمق فإنه لا يُترقَّب أن يعقل فيما تبقى له من حياة؛ لأنَّ من وصل مرحلة الشيخوخة وهو على هذه الحال فتغير أخلاقه من المحال، بخلاف الفتى صغير السن، فإنه وإن كان سفيهاً في هذه المرحلة العمرية فإن حلمه أمرٌ متوقعٌ وليس غريباً البتة.
هذه هي معلقة زهير بن أبي سلمى التي أفاض بها علينا من روائع حكمته وبدائع تجربته، وقد وقفت على بعض جمالياتها، ولم يبق إلا أن أرصد أبرز الخصائص الجمالية والسمات الأسلوبية التي كانت سبباً في تفرد هذا النص وبلوغه هذه المنزلة الرفيعة في صفحات تاريخ الأدب العربي.
1- اللغة السهلة والمفردات الواضحة التي يصوغ من خلالها زهير هذا النص المتألق، وهذا أمرٌ لافت للنظر إذا تذكرنا أن الشاعر عاش في العصر الجاهلي الذي تتميز نصوص شعرائه بغرابة الألفاظ ووحشيتها.
2- الأسلوب السلس والتراكيب الخالية من التعقيد والغموض، فقد رأينا زهيراً حين تحدث عن الحرب وقبح صورتها كيف صاغ لنا هذه المعاني بأسلوب لا تكلف فيه ولا تعسف، ويتضح هذا بشكل أكبر حين نصغي إلى مشاهده التي أفاض بها علينا من روائع حكمته وبدائع تجربته، وهذا سر من أسرار اشتهارها وانتشارها وجريها على كل لسان.
3- التصوير الرائع الذي استخدمه شاعرنا الخبير لعرض تجاربه وتقديم نصائحه، فالموت كالناقة العمياء التي تخبط خبط عشواء، والذي لا يصانع الناس يعض بالأنياب ويوطأ بالمنسم، أما الحرب فقد نالت النصيب الأوفر من هذا التصوير، فتارة يشبهها بالناقة التي تلد التوائم، وتارة بالرحى التي تطحن الناس، وتارة بالنار التي سرعان ما تتقد وتشتعل فتأكل الأخضر واليابس، وتارة بالنار التي سرعان ما تتقد وتشتعل فتأكل الأخضر واليابس، وتارة بالوحش الذميم الميت الذي يُبعث.
4- النزعة الدينية التي تميز بها زهير، ويبدو هذا واضحا حين يذكر الأحلاف بمغبة إخلاف الوعد وإضمار الشر، وأن الله سيعلم ذلك ويحاسبهم عليه يوم القيامة إن لم يعجل لهم العقوبة في الدنيا، كما يبدو هذا حين يؤكد على كثير من الأخلاق الإسلامية كالكرم وبذل المعروف وضرورة الوفاء بالعهد وعدم التردد في فعل الخير، وحين ينقل لنا رؤيته من الموت، وأنه لا يمكن الهروب منه مهما حاول الإنسان ذلك.
5- حكمه الرائعة التي امتلأ بها النص حتى فاض منها، وهي التي ميزت هذا النص وألبسته بهاء وجمالاً وجعلته يتربع أروع المعلقات في الشعر العربي، وما ذاك إلا لأنها صدرت عن حكيم مجرب، وخبير متأمل.
6- العاطفة الصادقة التي تلف هذا النص من بدايته إلى نهايته، وجميل أن نتذكر في هذا السياق سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سئل عن سبب تقديمه لزهير وإعجابه به فقال إنه: (كان لا يعاظل في الكلام، ولا يتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه).
هذه هي معلقة زهير بن أبي سلمى التي دخلت تاريخ الأدب العربي من أوسع أبوابه، فكانت ضمن أشهر المعلقات في شعرنا العربي.. وما زالت خالدة في الكتب وعلى الأفواه حتى يومنا هذا.. ولا عجب في ذلك إذا عرفنا أنَّ مَن صاغها لنا وقدَّمها إلينا شاعرٌ حكيمٌ مجربٌ خبيرٌ بحجم زهير بن أبي سلمى ..
- الرياض
omar1401@gmail.com