في الردهات الباردة التي لا يطالها دفءٌ رغم اكتظاظها بأنفاس البشر وحركتهم وقرع أحذيتهم على بلاطها الأبيض، نقف أنا وأختي في رحلة وجعٍ نحلم بانحساره قريبًا، تمامًا مثلما انحسر السواد عن شعر أمي ليسكن أبيض الفضة رأسها كما يليق بها. تتعلق عيني بنقاط الدواء التي تنساب عبر وريدها، وعيني الأخرى على شاشةٍ مزعجة تحيل أمي إلى مجموعةٍ من الأرقام، كل ما يتعلق بالأرقام يخيفني، الدقائق الفاصلة بين قياسات الضغط، عدد أقراص الدواء التي علي أن أضعها بدقة لوالدتي، عيار الدواء الذي يجب ألا يزيد أو ينقص، عدد صفحات الكتاب الذي بين يدي كل ليلة، و»نمرة» حذائي التي تختلف من حذاء لآخر، ورقم هاتفي الذي لم أستطع أن أحفظه حتى الآن فأخزنه في هاتفي، ياااااه كم أنا محاطة بالأرقام دون أن أعرف، وهاهي تجبرني على التصالح معها أو على الأقل أن نكون في هدنةٍ مؤقتةٍ!
في تلك الممرات نراقب الوجوه المنتظرة مثلنا حتى يحين موعد الزيارة، الأحاديث التي نملأ بها فراغ الوقت، حسنٌ لم يكن فارغًا تمامًا ما دام مكتظًا بحركات الأيدي القهرية القلقة! عيوننا جميعًا معلقة بالباب الذي يرتج كلما دخلت ممرضة أو طبيب، نتسابق في الوصول إليه قفزًا من مقاعدنا القليلة القريبة، كلٌ يبحث عن جملةٍ تفتح له كوةً للسكينة، وعن إشارة اطمئنان تخرس الهلع الذي يأكلنا من الداخل كما يتآكل لوح الحديد بفعل الصدأ. لكنه لا يصمت ولا يمكن تجاهله حين يصبح مثل طبلٍ إفريقي!
آخر مرةٍ كنا فيها هناك، فرغ المستشفى بعد انقضاء مواعيد الزيارة ولم يبق إلا عائلة واحدة تجلس بقلق أمام قسم العناية المشددة، ورجل وابنته يبحثان عن متبرعٍ للجدة ذات فصيلة الدم النادرة، وأنا وأختي نتابع ما يحدث بصمت الخائف، ولم نستطع منع أنفسنا من الانغماس في المشهد بعد أن أُبلغت العائلة بوفاة والدهم، نحيب الابنة أعاد لي مشهد رحيل أبي قبل ثمانية أشهر، كنت أبكي بذهول عندها وتبتعد عني أختي كأني مجذومة! ظللت أراقب المشهد وأرى نفسي وأبي الذي رحل ولم أقل له كم أحبه. ابتعدنا قليلًا وتركت نحيبي يعلو في باحة المستشفى الخالية إلا من رجل الأمن على البوابة، والصدى يتردد وأنا لم أنسَ! أمر بجانبهم بصمتٍ خاشع بعد أن وصل أفراد آخرون من العائلة وأعود ومعي قوارير مياهٍ ومناديل ورقية أمدها لتحل محل يدي التي خجلت من مدها لأمسح دمع الزوجة التي ظلت تردد حين عزيتها: «كنت أعرف أنه سيرحل هذه الليلة» قلت لها: نحن أيضًا فقدنا والدنا منذ أشهر، احتضنتي وأختي وربتت علينا مثل طفلتين، كانت حنونة حتى في حزنها. يا الله كم أعادت لي تلك اللحظات ندمًا غليظًا وافتقادًا للمواساة من إخوتي وأخواتي، لم يف الهاتف أبدًا بالغرض، كنا نتبادل البكاء والتعازي عبر الأسلاك، تمامًا مثل المشهد الذي كان يكرره التلفزيون السوري كل عام حين يتبادل أهل الجولان الأحاديث مع ذويهم على الجانب الآخر عبر الميكروفونات! هكذا كنا وما زلنا إلى أجل غير مسمى بعد!
حين بدؤوا بالمغادرة إلا من رجلين أو ثلاثة بانتظار شهادة الوفاة واستلام الجثة، سرقت أختي لحظة لتسأل الممرض عن حالة أمي، وبرغم كل الحزن الذي حملناه معنا عند عبورنا بوابة المستشفى العريضة عند منتصف الليل، كان جزؤنا الأناني يشعر بالارتياح لوضع أمي، وبدأ الحزن يشحب مع انسحاب الليل تاركًا على وجهينا أثرًا من شجن أنيق!
لقد عاد الدفء إلى غرف المنزل الباردة بعد أن عادت أمي من المستشفى، النور حيث تكون هي وكل العالم خواء... ممتنةٌ أنا لك يا إلهي.
بثينة الإبراهيم - القاهرة