حدَّثوني كثيرًا عن الاستقرار الذي تشهده سلطنة عمان، وعن الحب والسلام والتعايش والتسامح السائد بين الناس فيها، رغم التعدد الكبير في المذاهب.
كونتُ انطباعًا جميلاً عن المجتمع العماني، من خلال المواد المختلفة التي يتداولها الناس عنه، ومن خلال أمور أخرى، كالسؤال العريض الذي طالما تكرر في ذهني، وهو: لماذا يخشى الإرهاب من الاقتراب من أعتاب أبواب سلطنة عمان؟، وهو السؤال الذي جاء بعد اطلاعي على كثير من التقارير التي تؤكد باستمرار على أن سلطنة عمان تأتي دائمًا في ذيل قائمة الإرهاب الشرق أوسطيّة، فقد أظهر التقرير الأخير - مثلاً - عن ترتيب مؤشر الإرهاب الدولي لعام 2014م، أن سلطنة عمان جاءت في ذيل القائمة كعادتها المشرّفة، وبدرجة بلغت «صفر» من 10 نقاط.
انظروا إلى هذين المثالين اللذين اخترتهما بعناية:
المثال الأول: الصور الكثيرة الجميلة المتداولة الملتقطة من مساجد عُمان، والتي تُظهر صلاتهم جميعاً باختلاف مذاهبهم خلف إمام واحد في عدّة مساجد، فمنهم من يظهر مسبلاً يديه، ومنهم من يضع يده اليمنى على اليسرى، ومنهم من يضع حجرًا أو تربة معينة في موضع سجوده... إلى آخر تلك الاختلافات المذهبية.
والأجمل هو تبني جهات تربوية عمانية هذه الفكرة لتعليم الأطفال التعايش والمحبة والتسامح والسلام، فقد قادني البحث والفضول إلى مقاطع أفلام كرتونية، كمقطعٍ عنوانه (كلنا إخوة) حقق أكثر من 120 ألف مشاهدة على اليوتيوب، قامتْ بإعداده أختٌ عمانية اسمها زينب الغريبية، ويُظهر المقطع مجموعة من الطلاب من الجنسين، طلبتْ منهم معلمتهم إحضار ما يحتاجونه لتعلّم الصلاة، وفي اليوم التالي أحضروا معهم السجّادات والحجاب للفتيات وما شابه، ثم بدأ الدرس فصلّى كلُّ طفل حسب ما تعلمه من مذهب أهله، فمنهم من أسبل يديه ومنهم من وضع الكف الأيمن على اليد اليسرى، ومنهم من فرش في موضع سجوده ما يسجد عليه من تراب ونحوه.. وما أروع الأهداف التي وضعتها الأستاذة زينب في نهاية ذلك المقطع المبهر، حيث كتبتْ في آخره: أهداف هذا العمل:
1- غرس قيمة التسامح الديني عند الأطفال.
2- توجيه الطفل لتقبّل الآخر بفكره، برحابة صدر.
3- احترام جميع البشر لأنهم بشر، وعدم التمييز بين الطوائف.
والمثال الثاني: كلام كثير رائع وجدته في عدة تغريدات بصفحة الكاتب العماني الأستاذ المعتصم البهلاني، رئيس تحرير مجلة الفلق الإلكترونية، فرغم أن الرجلَ ملتزمٌ بدينه، كما يظهر من لحيته الطويلة الجميلة، ومن آرائه وتوجّه مجلته التي يرأسها وطريقة لبسه للعمامة، ومن غير ذلك.. رغم هذا الالتزام الديني الظاهر عليه، إلا أنه عبّر بطريقة راقية حضارية مستنيرة مهذبة، لو عبّر بمثلها غيره في دول خليجية أخرى، لربما تم اقتياده إلى السجن بتهمة الزندقة والعلمانية، حيث علق الأستاذ البهلاني على هذا الافتراض الذي طرحه البعض: لو هيئة الأمر بالمعروف في عُمان؟. علَّقَ قائلاً: «العلاقة بين الإنسان وخالقه علاقة شخصية وخاصة لا دخل للدولة بها، وليس من حقها أن تفرض التديّن على الناس».
ولا أخفي إعجابي بمثل هذا الطرح العقلاني المتوازن، الذي قرأتُ وسمعتُ مثله الكثير بأقلام كثير من العمانيين وعلى ألسنتهم، وبخاصة الكتّاب والوعاظ ورجال الدين والنشطاء وأصحاب الفكر، فبمثل هذه الرؤى المتروّية المتمعّنة استقرتْ عمانُ وازدهرتْ.
وفي المقابل لا أخفي استغرابي أيضًا من بعض النفوس المحتقنة، التي تسعى بإصرار رهيب إلى تعكير المياه الصافية في المجتمعات الآمنة، ومن ذلك مثلا الوسم الغريب الذي وُضع مؤخرًا في «تويتر» وهو: (السعوديين ينشرون الاسلام في صلالة)، وتعمدتُ ترك كلمة (السعوديين) كما هي رغم وجوب رفعها، وكذلك كلمة (الإسلام) تعمدتُ تركها دون همز، ليستطيع القرّاء الرجوع إلى الوسم إن أرادوا.
والحقيقة هي أني شممتُ رائحة التكفير والتضليل وتعمد إثارة الفتنة المذهبية النتنة فور قراءتي لهذا الوسم المريب، وتأكد ظني بعد أن قضيتُ فيه بعض الوقت، حيث كانت بعض التغريدات تصبُّ في هذا الاتجاه، أي في اتجاه تأجيج نار الفتنة بين العمانيين ومحاولة شق صف لحُمتهم المثالية، ورميهم بكثير من الإساءات، كوصف المجتمع العماني بأنه بعيد عن الإسلام الصحيح، وما شابه ذلك من التغريدات المختلفة، التي تتكرر بعدة صياغات من معرفات يتضح من القرائن أنها لسعوديين متطرفين دينيًا، يحاولون تفرقة الصف وإشاعة البلبلة في المجتمع العماني.
انزعجتُ من كثير من المشاركات في ذلك الوسم؛ وخفَّ انزعاجي حين قرأتُ في نفس الوقت تغريدة منسوبة للمعرف الرسمي لشرطة عُمان السلطانية، نصها: «الشرطة تلقي القبض على عدد من الأشخاص على خلفية نشر كتب تثير الفتنة الدينية والمذهبية في صلالة».
ولتخفيف حدة انزعاجي أكثر من بعض ما ورد في ذلك الوسم، ختمتُ تصفحي له بمشاركةٍ فيه، قلتُ فيها ما أكرره الآن هنا: ليت العمانيين ينشرون الإسلام.. ليتهم ينشرون إسلامهم السمح الراقي،..... لعلّه يقضي على فكر الدواعش الكثر!.
ومن محاسن الصدف، أن صديقي العزيز الأستاذ صالح الخليفة، رئيس النادي التشكيلي بالنادي الأدبي بالرياض، دخل عليَّ زائرًا فور انتهائي من كتابة هذه المقالة، ولعلمي بأنه من أكثر الأصدقاء سفرًا لعُمان، سألته: هل لديك إضافة على ما كتبته في هذا المقال يا أبا يزيد؟ فأرسل لي أبو يزيد لاحقًا هذا الجواب: «سلطنة عمان حالة استثنائية.. فرغم وجود كل التيارات والمذاهب لا أحد يتجاوز على أحد مهما كانت المواقف.. بل حتى لا يسمح لك الواحد منهم أن تتكلم بإساءة ضد من يختلف معه. لذا أجد سلطنة عمان غاية في الرقي وحسن التعامل والأخلاق».
وبما أني استشهدتُ بكلام صديقي العزيز صالح، أحب أن أستشهد أيضًا بكلام أربعة أصدقاء، شاركوا معي في حوار سابق عن موضوع التعايش في سلطنة عمان على صفحتي في الفيس بوك، حيث يقول الأخ العماني أحمد علي: «التاريخ العماني يشهد على ذلك التعايش، ولم تسجل حالة شاذة. تعلمتُ الصلاة ولم أعرف نفسي لأي مذهب أنتمي، بل لم يقل لي والداي، ولا حتى في المدرسة ولا الكتب المدرسية، أو الزملاء. كما أنه ليس لأحد فضل على أحد في عمان إلا بالمواطنة الصالحة».
أما الأخت أمل أحمد، فتقول في مداخلتها: «عشتُ في عُمان سنين من عمري وأشهد لهم والله أنهم شعب طيب وخلوق، فلم أشعر أني سنيّة بين غير السنة منهم.. حسن الجيرة وحسن الخلق وبساطة الحياة والتعامل.. كم أحترمك أيها الشعب العظيم؛ يا أجمل وأرقى شعب ترك في قلبي بصمة لن أنساها ما حييت. عيشوا بسلام وأمان واطمئنان حفظكم الله من كل شر وحماكم».
وتعلق الأخت هنّو القحطاني في حوارنا أيضًا بقولها: «التعايش الديني في عمان بدأ من البيت ومن التعليم ومن المناهج التي تربي على التعايش والاحترام، وهذا شيء نفتقده بالتعليم عندنا في السعودية، فمثلاً ندرس كل المذاهب، وبالأخير يقول لك: كل هذه المذاهب في النار وكلهم كفار، وأنت الوحيد الذي لك الجنة».
أما صديقنا عبد العزيز أحمد، فشارك معنا قائلاً: «المجتمع العماني حالة جديرة بالاهتمام، ومثالٌ رائع للتسامح والتعايش، بين جميع المكونات والمذاهب، والأجمل أنهم محصنون ذاتياً من سلبيات المجتمعات المجاورة لهم!».
وائل القاسم - الرياض