لفت نظري تعليقات بشأن أخبار عن زيارة معالي أمين عام منظمة التعاون الإسلامية إلى مدينة القدس؛ وفيها أن الزيارة كانت اعترافاً مجانياً بهيمنة السلطات الإسرائيلية على المدينة وبقية الأراضي المحتلة. لكن الجزء الذي يهمني في هذه المقالة من التعليقات، هي عبارات التحسر على وضع الفلسطينيين والأرض والشعب المفرَط بحقوقه، وخاصة تلك التي أضيفت فيها الألفاظ الخاصة بالناس والبلد إلى ضمير المتكلمين: «أهلنا»، «أرضنا»، «شعبنا الفلسطيني». فمن الناحية المنطقية والقانونية، وحتى الموضوعية البحتة، هل يمكن لكل من أحس بانتماء معين إلى منطقة جغرافية، أو بلد فيه شركاء له بالدم أو الديانة أن يستخدم مثل هذه العبارات؟ من منطلق قانوني هل يمكن لمصري أو سعودي أو عراقي على سبيل المثال أن يعدّ الشعب الفلسطيني ملكاً له أو الأرض الفلسطينية من أراضيه؟
أعرف أن بعض المعترضين على هذه التحديدات اللفظية، والتي تشكل غالباً الخارطة الذهنية، سيقولون إن منطلق هؤلاء الناس هو الطيبة، وحب الخير لهم كما هو لأنفسهم، لكننا كثيراً ما أتينا من هذا الباب في كثير من مراحل تاريخنا. فنحن نهذي بالعبارات التي تُشعر السامع بالتماهي مع الآخر، لكننا في المقابل يصنع بعضنا لذلك الآخر ما لا يصنعه الأعداء من الأفعال المنكرة في السر والجهر، ويحقد بعضنا على بعض قبل أن تنتهي ألفاظ النفاق من الألسنة، وقبل أن يجف حبر بعض اتفاقات التعاون والتكامل والدفاع والمصير المشترك إلى آخر تلك المقولات. وقد مثّلت أحداث تبدّل العلاقات السياسية بين البلدان العربية في حقب السبعينات والثمانينات، ثم ما بعد حروب الخليج المتوالية، شواهد لهذه الحال؛ حيث ينقلب أحدهم على الآخر في المواقف أو الولاءات في حين لم تغادر طائرته أجواء البلد الشقيق، أو بعيد وصوله بقليل. ومن يسمع تلك البيانات المليئة بالإشادة بالأواصر القوية، أو يقرأ ما تكتبه وسائل الإعلام في كل بلد منها، لا يظن أن كلاً من تلك الأطراف يضمر الشر في الخفاء، ولا يتوانى عن التحالف مع خصوم كل من يأخذه بالأحضان، ويصف علاقتهم بالأخوّة الدائمة والأمة الواحدة والشعب الواحد.
ضمن ذلك الخداع اللغوي تدخل ظاهرة المداخلات اللفظية على الهواء في وسائل الإعلام الحديثة من إذاعة وتلفزيون، حيث تمتلئ البرامج المباشرة بعبارات لا معنى لها، بل تكاد تكون فارغة وغير ملائمة للتخاطب بين أناس لا سابق معرفة بينهم، ولا يحكمهم إلا التواصل في قناة إعلامية يفترض أن وقت بثها ملك لجميع مستمعيها أو مشاهديها. فقد سمع كثير منا بعض تلك البرامج التي يتشدق المقدم أو مقدمة البرنامج، وكذلك المستمع أو المشاهد بالحب الشديد لذلك الشخص، والمبالغة في إطرائه بصورة تقترب من الخيال. بل إن بعضهم يستخدم ألفاظاً، مثل: يا روحي ويا عيني ويا قلبي ويا حياتي، دون إدراك أن تلك الألفاظ لا تصلح للتخاطب مع من لا تربطه بك علاقة وطيدة، وتكنّ له مشاعر خاصة.
ففي أغلب ثقافات العالم توجد ألفاظ خاصة للتخاطب في كل مستوى من مستويات الحديث أو المكاتبة؛ فلا يمكن لمن أراد أن يتجاوز تلك الأعراف، وإلا عدّه الآخرون خارجاً عن المألوف، وربما وصلوا إلى إنهاء مشاركته، لأنه لا يعرف حدوده. وإذا نظرنا إلى العلاقات بين أفراد المجتمع في تلك الشعوب، أو بين شعب وآخر منها، نجدها علاقات أكثر صحية مما تكون عليه الحال في العلاقات الفردية أو المجتمعية لدينا. فهل يكون الإسهاب في الوصف الإيجابي للعلاقة عندنا، والتماهي وإلغاء الحدود الاعتبارية، نوعاً من التغطية على الإحساس السلبي تجاه الآخر؟
- الرياض