ما زال البعض يظن أن النقد الثقافي تخصص بحثي أو نظرية خاصة، ولكن الحقيقة أن النقد الثقافي أقرب إلى موضوع مفتوح أو مادة خام يمكن لأي تخصص علمي القيام بإعمال أداوته المنهجية فيها، وعلى ذلك قد تستعمل الأدوات اللسانية أو الأدوات البنيوية والأدوات السيسيولوجية أو الأدوات السيمائية أو حتى بعض النظريات الفلسفية في مقاربات المادة الخام لنقد الثقافة، ولذا نجد في الغالب أن مصطلح (نقد ثقافي) ليس مصطلحاً علمياً متداولاً بكثرة في معاجم المصطلحات، بل إن الأكثر تداولاً هو مصطلح (الدراسات الثقافية)، لأنه أدق ولأنه يمكن أن يحتوي على تخصصات متداخلة ومتضافرة لنقد المادة أو الظاهرة الثقافية.
ولعلنا نجد أن إطلاق المصطلح يتم بكثرة من خلال وصف عمل الباحث (الناقد الثقافي) في بعص المقالات البحثية للإشارة إلى قيامه بنقد الثقافة مع قلة دوران مصطلح (النقد الثقافي)، وإن خصصت له بعض المجلات العلمية في أمريكا.
وحتى يمكن أن نعلن وفاة النقد الثقافي كتخصص بحثي مستقل، وأن خلاصة الأمر أن النقد الثقافي ما هو إلا الدراسات الثقافية التي بدأت أو تحولت فعلاً إلى (الدراسات الخطابية) سوف نلقي الضوء على وظائف النقد الثقافي عند من يتبنون هذا المصطلح كتخصص بحثي وإن كانوا في الغرب قد يراوحون بينه وبين مصطلح الدراسات الثقافية مع ملاحظة أنه لا يرتبط بنظرية محددة المعالم بل هو حقل بحثي متعدد التخصصات.
تتمثل أهم وظائف ما يسمى النقد الثقافي في أمريكا في جانبيين هما جانب إيجابي يقصد إلى دراسة انتقال الثقافات وعبورها بين الشعوب وتأثيرات Stereotypes (الصور النمطية) وجانب سلبي يقصر النقد الثقافي على دراسة تمظهرات (اللاسامية) وتوظيفها توظيفاً عنصرياً صهيونياً، ولكن النقاد الأوربيين أكثر ممارسة لنقد الثقافة من النقاد الأمريكيين، ويمكن على وجه الإجمال النظر إلى وظائف النقد الثقافي عندهم من خلال الآتي:
- دراسة السلطة والهيمنة اعتماداً على تحليل الخطاب الأركيولوجي عند فوكو.
- دراسة الإيديولوجيا اعتماداً على غرامشي وألتوسير.
- دراسة الصراع بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية ليس بين نصوص الأدب الرسمي العالية ونصوص الأدب الشعبي بل بين الأصوات في الروايات البولوفونية عند باختين.
- غالباً ما تدرس في نقد الثقافة النصوص الهامشية التي لا يلتفت إليها في الأدب الرسمي.
- يدرس في نقد الثقافة كل ما يمكن أن يشكل الثقافة بمفهومها العام، ولذا يدرس التلفزيون والسينما والتصوير والفلكلور.
- يدرس في نقد الثقافة تحرك النصوص (التناص، والتداخل، والاختراق) بين الثقافة الرسمية والثقافة الشعبية.
- يدرس في نقد الثقافة الوعي الإنساني بوصفه منتجاً ثقافياً.
هذه المجالات أو الوظائف التي يقوم بها كل من ينقد الثقافة، ونلحظ أن ما يجمعها أنه ليس هنالك نظرية واحدة يمكن أن تتناولها ولا يمكن تحديد علم خاص بها، وإنما هي دراسات تتعلق بالثقافة قد يصح اتخاذ أي منهج لمقاربتها، أي هي دراسات ثقافية، ولكنها في الوقت نفسه تتخذ بعد الكشف عن الصراع والهيمنة والسلطة وأنظمتها من خلال الخطاب المحمول في النص الثقافي، ويمكن أن يعرف (النص الثقافي بأنه كل علامة تدل على ثقافة ما لها تأثير في نص آخر)، ولذا يذهب بعض الباحثين إلى أن الدراسات الثقافية ينبغي أن تكون مشروعاً تحررياً، كما أن من الصعب كما هو معروف فصل الدراسات الثقافية عن الفكر الماركسي المقاوم للرأسمالية، ولعل بعض النقاد فطن إلى فكرة الالتزام الماركسية فنقلها إلى الأيديولوجيا الصحوية وسوق لنقد ثقافي إيديولوجي صحوي من خلال استعمال فكرة الأنساق والكشف عن المضمر المخالف للتوجه الصحوي ...
إن مرجعيات الدراسات الثقافية التي هي نفسها مرجعيات للدراسات الخطابية يجعلها تذوب تدريجياً في الدراسات الخطابية، إضافة إلى أن الموضوع الرئيس الجامع بينهما هو دراسة أثر الثقافة في السلطة أو دراسة خطاب النص الثقافي، ولكن المختلف بينهما أن الدراسات الخطابية بدأت بتشكيل نظريات خاصة بها لا استعارة أدوات من النظريات والعلوم الأخرى فحسب.
وعلى هذا، فإن الممارسة لعلم أو نظرية بمسمى النقد الثقافي غير صحيح، بل هي دراسات ثقافية تحتوي على علوم متعددة ونظريات متعددة لم تتشكل لها ملامح محددة، وانتقلت لتكون دراسات خطابية.
أما الممارسة التي تتم الآن وتسمى نقداً ثقافياً لدينا وفي بعض البلدان العربية، فهي ممارسة غير واضحة المعالم، وممارسة أقرب إلى الدجل العلمي وإلى السطحية منها إلى المنهجية العلمية وإلى ممارسة الوظائف الحقيقية للنقد الثقافي التي تتمحور حول سلطة الخطاب الذي تحمله الثقافة .. فهي تنحو ناحية الاهتمام غير العلمي ببعض الظواهر الثقافية دون درس علمي منهجي عميق، وقد لاحظ أحد المثقفين المغاربة (محمد بوعزة) ذلك في النقد المغاربي حيث إن شرعية النقد الثقافي .. لما تزل غير معترف بها تقريباً، وقد رد ذلك إلى الارتهان إلى النقد الفرنكفوني وإلى الابتعاد عن التأثر بالنقد الإنجلكسوسوني، كما رده إلى الضغط الشديد لشروط المنهجية والنظرية، وزعم أن الدراسات البينية هي ضربة لازب، وأن النقد الثقافي جزء من الدراسات المتحاقلة، وهو عبارة عن مظلة Umbrella ... وليس من عندي شك أن معظم الدارسين يعرف معرفة جيدة ما يقوله محمد بو عزة، ولكن ما يجري حقاً هو الانتقال إلى دراسات متحاقلة في نظريات تحليل الخطاب وفي إتباع مناهج متواشجة ولكن مع الوفاء بشرط العلمية والمنهجية والنظرية وفق نسق تنظيري خاص وليس وفق نسق تلفيقي أو تكاملي... وإلا أصبحت الأمور مجرد آراء شخصية سطحية في النهاية.
د. جمعان عبد الكريم - الباحة