أثينا – قاسم حول :
أخذتنا سيارته نحو بيته الجبلي، هناك بين منعطفات الجبال حيث تخيم الغيوم السوداء فوق قمم الجبال تداعبها الشمس حينا وتخجل منها حينا آخر فتغيب. ذكرتني الرحلة بسنوات العمر يوم أجبرنا قسرا على مغادرة بيروت عام 1982 لأعيش في بلد طالما عشقته من خلال أساطيره وتاريخه في مسرح «أبيثاروس» في تلك الحقبة تعرفت على الفنان «هوميروس سوباتليس» الذي كان يرسم رسوم الكارتون والحيل السينمائي كمهنة يعيش منها وهو الرسام الذي سطر حكايات أسطورية وأقام عنها المعارض وكرمته اليونسكو تقديرا لإبداعه في التعبير عن الأساطير الإغريقية في لوحاته.
واليوم وبعد غيابي عن اليونان قرابة العشرين عاما عدت إليها وإلى ذكرياتي لإنجاز العمليات الفنية اللاحقة لفيلمي «بغداد خارج بغداد» ولألتقي من جديد مع تلك الشخصية الجذابة «هوميروس سوباتليس» حين أخذني إلى بيته الجبلي.
هوميروس سوباتليس شاهدني عام 1992 كئيبا حيث أصبت بحالة إكتئاب مدمرة بعد حرب الخليج وصرت لا أقوى على الحديث ولا على المشي. أنظر إلى بحر اليونان فأراه مثل صفيحة من الزنك لا حركة فيه ولا أمواج. يومها ترك عمله وأخذ إجازة إستراحة ليأخذني إلى سفح جبل يفضي إلى بحر اليونان. هناك أقام خيمتين ولبس ملابس الغوص وصار يخرج من البحر المحار والأسماك الصغيرة فصرنا نشويها على منقل الفحم وعلى مدى يومين أزال عني الغمة وأعاد لي توازني الذي أفقدته الحرب. في تلك الأيام عرفته غواصاً يعرف أسرار البحر ومنها يستقي ألوان لوحاته. شخصية مدهشة يعارك الحياة ويرسمها ويعبر عنها بشفافية عالية.
كرمته اليونسكو بعد أن أقام معرضا متميزاً في أثينا. وجدت أن نسبر غور ألوانه مثل ما يسبر هو غور البحر وعالمه الذي تسميه الأساطير «عالم الموت السفلي»
هوميروس سوباتليس ولد في مصر في شهر أغسطس عام 1948 فهو من برج الأسد. والده نيكولا سوباتليس من مواليد 1911 في جزيرة «كاستي لوريزو» وكان رساما هو الآخر وغادر اليونان إلى مصر على أثر الحرب التركية اليونانية سنة 1919 – 1922 وهي الحرب التي عرفت بحرب آسيا الصغرى والتي إشتعلت خلال تقسيم الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. عاش والد هوميروس «نيكولا سوباتليس» في مصر وعين مصمم ديكور في محلات «أورز دي باك» المعروفة بإسم «عمر أفندي» وحين أطيح بالنظام الملكي في مصر وتسلم جمال عبد الناصر مقاليد الحكم قام والده برسم لوحة «بورتريه» لجمال عبد الناصر زين بها عبد الناصر مكتبه! فأشتهر والده كرسام إضافة إلى مهنته في تصميم ديكورات محلات عمر أفندي.
شغف «هوميروس سوباتلس» بفن الرسم متابعا خطوات والده ودخل كلية الفنون الجميلة المعروفة بإسم «ليوناردو دافنشي» وتخرج منها لكن حربا أخرى مثل حروب آسيا الصغرى التي أخرجتهم من جزيرة «كاستي لوريزو» فإن الحرب العربية الإسرائيلية التي عرفت بحرب الأيام الستة أخرجتهم من القاهرة وأعادته إلى اليونان، ليكمل حياته المعيشية والثقافية والفنية فيها.
وصلنا بسيارته منطقة «غاليني» الجبلية. هناك يقع بيته الجبلي الذي ينفذ فيه لوحاته التي سوف نتحدث عنها. لمحت بيتين على قمة جبل. بيتان غريبا التصميم. سألت عنهما فقال لي . في ذلك البيت على قمة الجبل تسكن أستاذة البيانو ومدرسة البيانوت مارينا والبيت القريب منها يسكنه الموسيقي اليوناني «ديمتريس» ولا شيء غيرهما على قمة الجبل. كل شيء هنا يشبه الأساطير اليونانية ويشبه آلهة الأغريق وحكاياتهم بين البحر والجبل. فأستاذة البيانو تدرس تلاميذها على الموسيقى قريبا من الغيوم التي تعبر قمة الجبل وتلون البيت وتدخله في الضباب حينا وتخرجه نحو الشمس حينا آخر.
أقام «هوميروس سوباتليس» معرضا في كولوناكي في المركز الثقافي الفرنسي مرتين. وأقام معرضا في الغاليري المسمى معبد الفن ويقع في طريق «خيذاري» الطريق الذي يطلق عليه «طريق الغروب الثامن» كما أقام ثلاثة معارض أخرى في كاليريهات مختلفة في العاصمة اليونانية حيث بعدها تم تكريمه من قبل منظمة اليونسكو في اليونان ومنحته وسامها.
ما أثارني ودفعني لحوارة فكرة لم تكن تخطر في بال أحد حيث يظن وفي ظنه ليس إثماً أن شيئا من أساطير الإغريق تحوم في بحر الخليج وصحرائة. هكذا يظن من خلال متابعته لواقع الخليج وتطوره وحكاياته بين الصحارى والجمال والمهارى والصقور. وهو يرى في خفايا الحياة الإجتماعية حكايات تشبه الحكايات الإسطورية لآلهة الإغريق!
ماذا تفعل بتلك الحكايات وكيف تسقط الأساطير الإغريقية على واقع الخليج الإجتماعي والإنساني، وهو واقع محافظ فيما أساطير الأغريق مفعمة بالوضوح بعكس واقع العلاقات الإنسانية بين الرجل والمرأة مختلف تماما. أشار لي إلى لوحة بدأ يلون تشكيلها وشخوصها. وهي لوحة إله الشمس «أبولو» الذي يصعد في عربته التي تجرها الأحصنة الأربع ة وهي تنطلق في السماء من شرق كوكب الأرض متوجهة نحو غربه. فتكشف الضوء، ضوء الحياة المشع من الشمس وتكشف لنا أسرار الحياة من خلال ضوء الشمس. وإذا بإمرأة خليجية بملابسها السوداء التراثية التي تلون أطرافها إشعاعات الزمرد والأحجار الكريمة وهي بجمالها الغريب الحنطي والقهوي ولمسات عيونها الزرقاء تملأ مساحات الصحراء فيما يعتلي أبولو قيادة عربته في سماء الكون.
قال لي هوميروس وأنا مندهش من الفكرة التي تحقق ذلك التزاوج بين ما تكشفه عربة أبولو من المشاهد غير المحافظة لإسقاطها على مجتمعات محافظة بالكامل. أجابني أنا لست بصدد عمل إستنساخ للأسطورة الأغريقية فلقد رسم الإغريق كل إساطيرهم ونحتوها على مواد كثيرة منها الحجر والحديد والخشب وأقاموا النصب العالية في بلادنا. أنا هنا أستفيد من مضامين الأساطير الإغريقية لبحث قيم جمالية في الخليج العربي حيث مضامين الأساطير يمكن أن تشكل الأسرار المختفية في واقع الخليج. هي محاولة دهمتني وشغلتني فصممت لها ما يقرب من أربعين لوحة تشكل عندي الآن دراسة هادئة في تحقيقها أشعر بأني حققت حلما طالما راودني وأنا إبن الثقافة المصرية والإغريقية حيث عالم الصحارى والإهرامات والنخيل يمتزج عندي باللون مع عالم الجبال والسهول والبحار. الثقافة اليونانية هي أصلا ممتزجة بالثقافة الشرق أوسطية وممتزجة بعالم الشرق والبحر ذات البحر وإبدال الجبال الشامخة بالصحارى الواسعة يمشي في ذات الغموض ويمتلك ذات المضامين التي تناولتها أساطير الإغريق.
وهل تنوي إقامة معرض لتلك اللوحات في اليونان أم في منطقة الخليج؟
- أرغب في إقامته في الخليج ربما في الشارقة كونها العاصمة الثقافية لدولة الإمارات العربية المتحدة، ومنها أنطلق نحو بلدان الخليج الأخرى. أو أية دولة تستضيفني، وسوف أجري إتصالاتي بعد أن أنجز كامل المشروع رسماً.
هل تجد عمق الميثولوجيا الإغريقية قابلة للعلاقة مع طبيعة الحياة الصحراوية القديمة لبلدان الخليج.
- إن تلك الطبيعة الصحراوية فيها ذات الغموض والسرية التي نسجت بها ميثولوجيا الأغريق. من الصعب التقرير الآن بصدد نجاح التجربة. بالتأكيد سوف تكون هناك مساحات لونية معبرة فأنا لا أرسم الحكاية بشكل مبسط وتعليمي، إنما هي قيمة ذات بعد تجريدي تطلب السفر في أبعاها الفنية والفكرية. المخططات عندي كاملة وأنا منكب على رسم لوحات مصغرة حتى تستكمل فكرة المشروع كاملة. أنا الآن أمام تجربة واحدة. لوحة واحدة بمقاس ثلاثة أمتار بمترين. كل لوحة تحتاج إلى رحلة في عالم الميثولوجيا واللون المعبر عن المضامين الصعبة للأساطير اليونانية.
هل أنت مطل على الفن التشكيلي العربي؟ وعن التشكيل في منطقة الخليج؟
- نشأتي المصرية الأولى وعلاقتي مع والدي كرسام ومصمم أتاحت لي فرصة التعرف على الفن التشكيلي المصري سيما وأنا درست في معهد دافنشي. في تلك الفترة وخارج تجربة التشكيل المصرية كنت أسمع وأشاهد أعمال تشكيلية من العراق وسوريا، أما الفن التشكيلي في الخليج فكان يتسم في بدايته بالفن الفطري، وكانت له نكهة خاصة ثم سرعان ما تطور بفعل تطور الحياة بشكل قفزات نحو المعاصرة. لقد تطورت الحياة في الخليج العربي بشكل متسارع وقد شاهدت أفلاما وثائقية عن فن التشكيل في منطقة الخليج وأحب أن أذهب إلى هناك كي أطلع على حقيقة تطور الفنون التشكيلية. في اليونان تقام بين الحين والآخر معارض عربية وخليجية وكنت أراها وإنغمر فيها متمعنا تأثير الطبيعة على طبيعة اللون.
لقد عملت في السينما، في أفلام الكرتون، هل ساعدك ذلك في عملك كتشكيلي؟
- عملت في السينما لأنني من الصعب أن أعيش من لوحاتي كتشكيلي؟ لقد عملت أيضا في رسم الميثولوجيا في «ريليف» كان يستهوي السائحين. وكان أصحاب الكاليريهات يستغلون الواقع الصعب الذي يعيشه الفنان اليوناني. صحيح أن لوحاتي كانت تباع في مخازن تبدو سياحية ولكن أصحاب المحال يعرفون قيمة أعمالي فكانوا يقيمونها بأسعار عالية وقد علمت بأن عملين نحتيين وأعمال «ريليف» بيعت للمطرب اليوناني «ديمس روسوز» بأسعار كبيرة جدا أشتراها، وقد زين بها جدران بيته. عندما كنت أنفذ تلك الأعمال لا يمكنني أن أعملها بصيغة سياحية أو تجارية على الإطلاق. كنت أرسمها كلوحات من القلب وأضع روحي فيها وأضع ألواني لكنهم كانوا يشترونها في الجزر مني بأسعار سياحية ويبيعونها لمن يدرك أهميتها بأسعار تتناسب وقيمتها الفنية . عملي في السينما كان يغطي لي كلفة العيش الصعبة، وفن التحريك والحيل السينمائية أيضا فن جميل، وكان مطلوبا لكن تطور الواقع التقني وضعنا على الهامش. من الصعب علينا مواكبة التطور فرمينا على الهامش. أن تحصل على فرصة ذهبية ذلك رهين الصدف والحظ والعلاقات. عالم قائم على مساومات كثيرة ومنها مساومات على الموقف، ذلك ما يضعك في الواجهة. لقد تعقد الواقع والأزمة الإقتصادية التي تعيشها اليونان منذ فترة ولا تزال، فإنها بالتأكيد أنعكست على الثقافة والفن. لم تعد لدى اليو ناني قدرة إقتناء الأعمال الفنية فصار التجار يستغلون ذلك ويشترون الأعمالفصار التجار يستغلون ذلك ويشترون الأعمال بأسعار رخيصة ويحتفظون بها لفترات لاحقة أو يصدرونها خارج اليونان. الفن التشكيلي يعيش مأساة والفنان يعيش أزمة حقيقية، فالأبداع يحتاج إلى إسترخاء وإلى فسحة من الوقت. الأحلام تحتاج إلى سرير نوم مريح حتى لا تتحول الأحلام إلى كوابيس.
لا حظت في لوحاتك تنوع الأساليب كيف تفسر ذلك؟
- أحيانا الموضوع يفرض شكله. عندما كنت في جزيرة وكنت أمام أثر تاريخي يمثل قصرا من قصور الأغريق كانت الشمس وإنعكاس ضوء ماء البحر على المرمر وشكل البناء. بدت أمامي الصورة لوحة متكاملة ذات بعد إنطباعي. كان لابد من رسم لوحة إنطباعية، وهذه اللوحة لم أنفذها بشكل فوتوغرافي رغم أنها تفرض شكلها التاريخي، لكن الضوء والظل أبعد اللوحة عن الفوتوغرافية وقرب القصر من وزواياه من الإنطباعية. فنفذت لوحة قائمة على الظل والضوء.
لماذا كانت اللوحة طولية وليست أفقية كي تغطي المساحة كاملة؟.
شكل البناء كان طوليا .. هو بقايا قصر وبقايا مرمر وبقايا جدران وممرات كانت قريبة من ساحل البحر. هي تكونت في لحظة أقصد القيمة الإنطباعية وخفت أن أخسرها فصورتها فوتوغرافيا ثم بدأت أتأملها وأتصرف. راقبتها في اليوم التالي في نفس الوقت ولكني وجدتها شكلها مختلفا تماما. هي لحظة إنطباعية وثقتها فوتوغرافيا ثم بدأت أتصرف مستفيدا من طبيعة لون الجدران وإنعكاس الضوء، ضوء الشمس المباشر وضوء البحر المتموج فوقها. كل ذلك أوحى لي باللوحة ذات القيمة الإنطباعية. وهي لوحة تختلف تماما عن كل لوحات ميثولوجيا الأغريق في لوحاتي .. هذه الميثولوجيا التي اريد أسقاطها على حياة الخليج التي تبدو فطرية وصحراوية، لكن قيمتها الإجتماعية كما اظن منسجمة تماما مع ميثولوجيا الأغريق. دعنا نرى، دعنا ننتظر عسى يكون شيئا مثيرا .. اظنه كذلك.
أنت تتحدث العربية بشكل جيد!
- اتمنى ذلك.