بين النصوص نثار من عبق الشعر
يتفاعل الشاعر يوسف العارف من خلال ديوانه (عندما يُورق الزنجبيل) مع القارئ برسائل وجدانية يريدها أن تكون مصافحة لطيفة يلتقط منها مبادرة الوعي بأن الشعر كائن عجيب، يستطيع أن يسجل حضوره في الذائقة على نحو بهيج.
فها هو ديوان القرنفل والعارف يتهدجان تحنان الحياة و.. فيلتقط القارئ أول خيط من خيوط اللعبة الجمالية، ليساوق بين حلم وواقع حتى ترتسم الصورة عن نحو إيجابي؛ يصور الأشياء من أبعاد إنسانية موغلة في خصوصيتها وبهاء رؤاها..
حتى ترى أنه قد خاض في مصافحته الأولى، ومن خلال قصيدته «نبوءة القوافي» في همّ الإنسان العفوي الذي يبحث عن جمال الروح وبهاء الحياة كبحثه عن الرزق لا سيما لحظة أن يستشعر أن الحياة باتت على شفير قحط معنوي ممكن:
«انقل خيامك..
لا عشب ولا مطر
ولا ربيع يرى حولي..
فأنتظرُ!!»
فالقصيدة الفاتحة تأخذ مهام السرد لمفردات خطاب إنساني يريد الشاعر يوسف العارف أن يجنّده في هذا الديوان ليكون رسالة وجدانية مبطنة برغبة البحث عن حياة معبرة وعن وجود جمالي ممكن.
لغة القصائد في ديوان القرنفل ذات بعدين متكاملين، فالبعد الأول يكمن في لغة الخطاب الشعري ورسم معالم البوح وتفاصيل المعاناة، أو ما يمكن أن نسميه بيئة القصيدة أو منطلقاتها، أو شاعريتها، والبعد الآخر يكمن في لغة الكتابة التي حرص الشاعر على أن تكون متقنة ومرشدة حتى لا تجد أن هناك أي إطناب أو ترهل إنما يسعى جاهداً إلى أن يكون الشعر في هذا الديوان على هيئة رسائل وجدانية لا تتخلى عن وعيها وقدرتها على تصوير المشهد بلقطات سريعة ووامضة:
«ارتقب يوماً سيأتي
وعلى خيلك أن تقطع
هذا الشرك
إن للفجر انبلاجاً
بعد أن زاد الحلك»
فالعارف يضع أسلوبه الشعري المتقن في كل تفاصيل القصيدة، لتكون لمحة الوعي واضحة، وإن تساوقت مع رؤى الشعرية في بطان مخملي من كلمات يستدرجها الشاعر ويقتصد في أدائها بشكل فريد، وذلك على نحو ما يريده من استقصاء لرحلة الحياة التي خاضها، فهو معني بألم الحالة ولا بد من توظيفها بشكل شعري متميز، ليجد القارئ أن كل قصيدة لا تخلو من مضمونها الشخصي الذي تأثر فيها قائلها، لكنه يقدمه بشكل موارب وجميل لكي لا تشخصن الأمور، وتدخل القصيدة نفق النرجسية والأناوية التي قد لا يقبل القارئ عليها كثيراً، لنجد أن جل قصائد هذا الديوان تمتاح من رؤى الوصف للحالة والخروج منها بشكل متقن إلى فضاء تعبيري آخر.
عني الشاعر يوسف العارف ومن خلال قصائد هذا الديوان بطرح الأسئلة دون إلحاح أو انتظار للإجابات المتوقعة أو غير المتوقعة.. فهو أسلوب يتبعه من أجل أن يكون الحوار الشعري ممكناً.. والأسئلة قد لا تحتمل الإجابات بل ربما أن السؤال هو بذاته إجابة مقنعة للحالة التي يخوضها الشاعر، ومن منطلق معاناة يستبطنها في قصيدة « سؤال؟!» حينما يدرك أن الأسئلة مفتاح الوجود:
«حدثيني يا ابنة الفجر البهيج
حدثيني
كيف كان الليل؟
وكيف مساؤه المبيض
بالبدر الأنيق.
صب الزعفران لعاشقين متيمين..؟»
فالشاعر يتكئ على خاصية البوح الشعري المعبأ برؤى الوجدانيات، وتباشير الحب والهيام بالأمنيات التي يلونها في حروفها بغية أن لا يشق على القارئ أو يغم عليه في نكد المعاناة المألوفة، لينتقي الكثير من المفردات التي تسهم في خلق فضاء شعري رقيق يستطيع من خلاله استمالة القارئ نحو القراءة بحس جميل.
ولا يخلو ديوان القرنفل من أن يخوض في تفاصيل الحياة المعاندة والشقية على نحو قصيدته «زيف واغتراب» إلى أنه يمر على الألم مرور الكرام، ليلتقط من أبجديات المعاناة ما يكفي لرسم تفاصيل المشهد الشعري المعبر عن مكنون إنساني لاعج:
«أنت وحدك؟!
لا.. لست وحدك..
لا تشتكي همّ نفسك
يا أيها المشتكي
أنت طين وروح
روحك الآن تمضي
ويبقى منك هذا التراب؟!»
فالخطاب الشعري هنا وجداني، ومعبأ بالوعي، وينهل من معين وصف متقن لتفاصيل الحياة ومآلاتها الأليمة، فلا شيء غير الشعر يمكن أن يصنعه الشاعر في وجه هذا العناء، إلا أن هذا الشعر في ديوان القرنفل له خصوصية الشعر المتقن والحاذق.
** ** **
إشارة:
- عندما يُورق الزنجبيل.. ديوان
- يوسف حسن العارف
- النادي الأدبي بجدة 1435هـ
- يقع الديوان في نحو (150صفحة) من القطع المتوسط