(35- شهادة العاديّات المِصْريَّة- 5)
ذكرنا في المقال السابق أن ما ورد في «التوراة» من أن «إِقَامَة بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَقَامُوهَا فِي مِصْرَ كَانَتْ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً»(1)، فيه نظر، وقد يبدو تقديرًا ارتجاليًّا خاطئًا. ولعلّ إقامتهم في مِصْر لا تتجاوز قرنَين ونصف، خلال حكم (الهكسوس)(2)، ثمَّ جاءت الأسرة الفرعونيَّة الثامنة عشرة فطردت الهكسوس، وسرعان ما لَحِق بهم العبرانيُّون، بعد سبعة ملوك، وذلك في عام 1401ق.م تقريبًا. على أنه ينبغي أن تؤخذ الأرقام التي ترد في «التوراة»، وفي «العهد القديم» عمومًا، بتحفّظ شديد، لا بدلالاتها الحَرفيَّة. ذلك أنه- فضلًا عن المبالغات الفاحشة في الأرقام الواردة في حروب بني إسرائيل، وما تُساق فيها من أرقام خياليَّة، الهدف منها التهويل والترهيب- يُلحظ أن الرقم «أربعة» بخاصَّة كان يمثِّل رقمًا نمطيًّا يتكرّر في «العهد القديم»، على نحوٍ لافت، وكأنه لا يعني حقيقة الرقم، بل تعظيم العدد؛ فهو يبدو من هذه الناحية مثل الرقم «سبعة» في العربيَّة القديمة. فأنت تجد، مثلًا، القول: إن مطر الطوفان استمرّ «أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً»(3). وإن أَرْفَكْشَاد عاشَ أربعَ مِئَةٍ وثلاثَ سِنينَ، وعاشَ شالَحُ أربعَ مِئَةٍ وثلاثَ سِنينَ، وعاشَ عابِرُ أربعَ مِئَةٍ وثلاثينَ سنة.(4) فعُمْر الأخيرَين هو نفسه عُمْر إقامة بني إسرائيل في مِصْر! وقال الرب لإبراهيم: «اعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيبًا فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ، وَيُسْتَعْبَدُونَ لَهُمْ. فَيُذِلُّونَهُمْ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ».(5) «وَكَانَ إِسْحَاقُ ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمَّا اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ زَوْجَةً».(6) «وَلَمَّا كَانَ عِيسُو ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً اتَّخَذَ زَوْجَةً».(7) «وَكَمُلَ لِيعقوبَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، لأَنَّهُ هكَذَا تَكْمُلُ أَيَّامُ الْمُحَنَّطِينَ».(8) وكانت «إِقَامَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً»(9)، «وَأَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْمَنَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً».(10) «وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً».(11) وكان بناء الهيكل «فِي سَنَةِ الأَرْبَعِ مِئَةٍ وَالثَّمَانِينَ لِخُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ».(12) وهكذا كان الرقم «أربعة» يتردّد بطريقةٍ تجعل حقيقة معناه محلّشكّ.
غير أنه لو قيل إن تأريخ دخول (الهكسوس) إلى (مِصْر) كان عام 1790ق.م(13)، وأن دخول (بني إسرائيل) إلى مِصْر كان مزامنًا لهذا التأريخ، أو لعلَّهم دخلوا مع الهكسوس، بل ربما قيل إنهم جزء من شعوب الهكسوس المختلطة الجنسيَّات؛ إذا قيل بهذا، وسُلِّم به، أمكن أن نُجري العمليَّة الحسابيَّة التالية:
كان دخول بني إسرائيل إلى مِصْر: 1790ق.م.
فإذا افترضنا أن الرقم الذي ذُكر في «التوراة» حول مُدَّة إقامة بني إسرائيل على أرض مِصْر (430 سنة) صحيحًا، وأنه كان يتضمَّن سنوات إقامة بني إسرائيل تحت الحكم المِصْري بالإضافة إلى سنوات التِّيه (40 سنة)، أي إلى أن خرجوا نهائيًّا من صحراء سيناء، فذلك يعني أن مُدَّة إقامتهم الحقيقيَّة (تحت الحكم المِصْري) هو: 430- 40= 390 سنة.
إذن: كان خروج بني إسرائيل من مِصْر: 1790- 390= 1400ق.م. فخروجهم من مِصْر حوالَى 1400 أو 1401ق.م. وهو التأريخ نفسه الذي توصّلنا إلى تقديره.
لكنها ستعترض هذا تقديراتٌ سابقة تتعلَّق بتاريخ إبراهيم، وإسحاق ويعقوب. كالقول، مثلًا: إن إبراهيم وُلد 1850ق.م. إلّا أن تقديراتٍ أخرى تذهب إلى أنه عاش قبل عام 2000ق.م.(14) فإذا صحَّت هذه التقديرات الأخيرة، كانت تقديراتُنا السابقة حول دخول بني إسرائيل إلى مصر وخروجهم منها مقبولةً جدًّا، ومتساوقة مع التواريخ من قَبل ومن بَعد.
وأمّا تاريخ بناء الهيكل، وأنه كان بعد عام الخروج بنحو 480 سنة، فيبدو مقاربًا للحقيقة، إنْ لم يكن مطابقًا. وهي- على كلّ حال- مسألة يحكمها هنا التاريخ، بين حدثَين مهمَّين في حياة القوم، هما الخروج وبناء الهيكل السليماني، من المستبعد أن يقع الغلط فيهما أو المبالغة. وقد رأيناه مصادقًا بالفعل لافتراضنا أن فرعون الخروج هو (أمنحُتِب الثاني)، لا قبله ولا بعده.
هذا، إذن، ما يمكن تقديره حول إقامة (بني إسرائيل) في (مِصْر)، إذا اعتمدنا على الوثائق العِلْميَّة، والإشارات النصوصيَّة، المؤكِّدة وجود العبرانيِّين في مِصْر، والمرجِّحة تاريخ ذلك الوجود، بعيدًا عن التمسُّك الحرفي بمرويَّات «التوراة» حول ذلك.
أمّا الرأي الذاهب إلى أن الفرعون الثالث من الأسرة التاسعة عشرة (رمسيس الثاني، -1213ق.م) هو فرعون التسخير، وأن (مر نبتاح، -1203 ق.م)، ابنه، هو فرعون الخروج(15)، ففرضيَّة جديرة بالتقدير، لولا تعارضها مع المعطيات السابقة، منذ رسائل (تلّ العمارنة). وأوّل المشكِّكات في صحّة هذه الفرضيَّة أنه من غير المعقول تصوُّر بقاء العبرانيّين في مِصْر- بعد طرد الهكسوس الذين كانت لهم الحظوة في عهدهم- ليُعاصروا أُسرتَين من الفراعنة، الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، وتحت نير ثمانية عشر فرعونًا. فهذه مُدَّة طويلة جدًّا على نحو غير محتمل. وإنما الأقرب إلى طبائع الأمور أنهم أقاموا في مِصْر بعد الهكسوس، كرهًا أو طوعًا، تحت نير سبعة فراعنة، ثُمَّ تمَّ لهم الخلاص. فلقد كان المفترض أن يخرجوا من مِصْر مع الهكسوس، لكنهم بَقُوا لسببين: أوّلهما، يبدو أنه كان قد تغلغل في المجتمع المصريّ من الصُّنَّاع العبرانيِّين والحِرَفيِّين من آثروا، هُم ومشغِّلوهم، أن يَبقوا، وكان ذلك هو خيارهم المفضَّل. والسبب الآخر، يبدو في سياسة المِصْريين، التي كانت وُجهتها، بعد تطهير البلاد من الهكسوس الغزاة، أن يُبقوا على تلك الأيدي العاملة الرخيصة أو المستعبدة من العبرانيِّين من أجل إعادة الإعمار والتنمية. فاستمرّ هؤلاء لسبعة عهود من حكم الأسرة الثامنة عشرة. أمَّا أن بقاءهم استمرّ لثمانية عشر عهدًا فرعونيًّا، فأمر بعيد التصوّر.
على أن من مسوِّغات الفرضيَّة القائلة بأن (رمسيس الثاني) هو فرعون التسخير وابنه (مرنبتاح) هو فرعون الخروج، المطروحة لدى القائلين بها أو المحتملة، ما يأتي:
- أن زوجة (رمسيس الثاني) اسمها (إيزيس نوفرت). فربما قيل إنها المعروفة في التراث الإسلامي بـ(آسية)، مع بعض التحريف المحتمل في الاسم (إيزيس = آسية).
- أنه أعقب مرنبتاح فراغٌ في حكم مِصْر، استمر أربع سنوات، قبل أن يتسنّم مُلك مِصْر (سيتي الثاني). وهو فراغٌ غامض، قد يفسَّر بالأحداث التي وقعت لمرنبتاح. لكن هذه ليست بقرينة كافية، ولاسيما في مواجهة النصوص الوثائقيَّة المشار إليها. على أنها قد دلّت مومياء مرنبتاح على أنه توفي شيخًا كبيرًا، موتًا طبيعيًّا، وإنما يبدو أنه كان يعاني في آخر حياته من التهاب المفاصل وتصلّب الشرايين. ولئن كان في مثل تلك قرينة يُعتدّ بها، فلقد أعقب (أمنحُتِب الثاني) كذلك مَلِكٌ خامل الذكر، عليل الصحة، هزيل الجسم، وإنما استولى على السلطة بدعوى رؤيا مناميَّة، ثمّ سرعان ما توفي شابًّا في الثلاثين من العمر، بمرضٍ غامض، واسمه (تحوت موسى الرابع). فربما قيل هنا إن ذلك بسبب ما كَرَثَ مِصْر من بلايا وأمراض، ومن انكسارٍ مُريعٍ لفرعون الخروج (أمنحُتِب الثاني) وجنوده. كما أنها قد جَعلتْ أسرة الفراعنة الثامنة عشرة هذه تنحدر بعد (أمنحُتِب الثاني) نحو الاضمحلال والضعف والتنازع الدِّيني، إذا استثنينا عهد (أمنحُتِب الثالث).
- قد يُستدلّ بنصّ مرنبتاح حول (بني إسرائيل) على هذه الفرضيَّة. لكنه، كما قرأناه من قبل، شاهد على أن خروج بني إسرائيل كان في عهد سابق لا في عهده.
- ما ورد في «التوراة» من إشارة إلى بناء اليهود مدينة (رمسيس) و(فيثوم)، في المنطقة الشرقية من دلتا النيل.(16) غير أننا حينما نعود إلى ما جاء حول ذلك نفهم أن ذلك كان في عهد (يوسف)، لا في عهد (موسى).
** ** **
وهذا وغيره ما سنواصل مناقشته وتفنيده في المقال التالي، بمشيئة الله.
(1) سِفر الخروج، 12: 40.
(2) اختُلف في أصل (الهكسوس). وأغلب الظن أنهم أقوام من عرب شمال (الجزيرة العربيّة) و(العراق) و(الشام)، كما تشي بذلك أسماؤهم وجِهة غزوهم لمِصْر. وقد وُصفوا عادة بأنهم بدوٌ رُعاة وفُرسان خيل. وتقنيتهم الحربيَّة التي جلبوها إلى مِصْر، المتمثّلة في العربات الحربيَّة التي تجرُّها الخيل، تُذكِّرنا بعربات الآشوريِّين الحربيَّة.
(3) سِفر التكوين، 7: 4. (4) انظر: م.ن، 11: 13، 15، 17. (5) م.ن، 15: 13. (6) م.ن، 25: 20. (7) م.ن، 26: 34. (8) م.ن، 50: 3.
(9) سِفر الخروج، 12: 40. (10) م.ن، 16: 34. (11) م.ن، 24: 18. قارن: 34: 28.
(12) سِفر الملوك الأوّل، 6: 1.
(13) ممَّن ذهب إلى هذا (السقّاف، أبكار، (1997)، إسرائيل وعقيدة الأرض الموعودة، (القاهرة: مكتبة مدبولي)، 139).
(14) هناك من يذهب إلى أن (إبراهيم الخليل) وُلد 2200ق.م وتُوفي 2000ق.م. (يمكن هنا الاطِّلاع على ملخَّص ما ورد حول هذا في: موسوعة «الوكيبيديا»، على «الإنترنت»:
).https://ar.wikipedia.org/wiki/إبراهيم
(15) انظر: بوكاي، موريس، (1990)، التوراة والإنجيل والقرآن والعِلْم، ترجمة: حسن خالد (بيروت: المكتب الإسلامي)، 266- 270.
(16) انظر: م.ن، 266.
- الرياض
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify