اصطفى نزار قباني في رائعته الشعرية: «حوار ثوري مع طه حسين» أجل ما يمكن أن يشار به إلى الدكتور طه حسين.. وهو: «الضوء» فما يمثله طه حسين في تاريخ الأدب والثقافة العربية المعاصرة هو حالة من حالات الضوء الوهاج، الذي أنار دروبا وبصّر معرفة ووسع من حدقات مخيلة.
نزار آثر أن يكون الضوء هو الكلمة الاستهلالية في قصيدة مطولة، لكنه ضوء قادم من هناك. من ظلال العتمات الطه - حسينية، وهي عتمات مترعة بالأسى والشجن والعذاب الليلي البهيم. وهنا يتحقق قدر من المفارقة المأساوية، إِذْ إن صانع الضوء هو هذا المبصر الذي تصبح عيناه كنجمتين.. وتشكل كتاباته حالة من التنوير الذي لا يغيب عن سماء الثقافة، ولكنه ينتقل. قد يتوارى قليلا لكنه يعود للتوهج وهنا يبرع التشبيه الذي صنع المفارقة العالية، المفارقة الشجنية التي مهدت للشطر الثاني الأكثر روعة الذي لخص فيه نزار بكثافة الصورة الطه - حسينية. نزار اصطفي أجمل ما في طه حسين فقال:
ضوء عينيك أم هما نجمتان
كلهم لا يرى.. وأنت تراني
سحر بيت نزار قباني عن طه حسين يتجلى في أنه اختار البداية ببراعة جمالية نوعية، حيث جاء بالكلمة المخالفة للعمى، وتخطى هذا اللا بصري في طه حسين إلى عين القلب، وعين البصيرة التي ترى أعمق وأبعد. حيث اختار نزار «الضوء» بكل ما تعنيه الكلمة من توهج وإشراق ورؤية / رؤيا ليستهل بها البيت، واختار نزار «الضوء» ولم يقل: «النور» وفي الدلالة العربية للضوء ما يعطي قدرا من التوهج والإشراق، فالضوء متعلق أكثر بالشمس فيما النور متعلق بالقمر، نزار جعل طه حسين أكثر إبصارا وأكثر إشراقا. لينتقل إلى الشطر الثاني الذي تتحقق فيه الرؤية العبقرية: «كلهم لا يرى.. وأنت تراني».
هذا الاشتغال الدال من لدن نزار قباني يتجلى في أنه يكثف ببراعة شديدة حالة التصوير الشعري. فالشطر الأول تشبيه مفارق - مأساوي بين ضوء العينين الخفي غير المباشر غير المرئي والنجمتين. والشطر الثاني: تقرير شعري عن شدة الرؤية وكثافتها لينتقل الشاعر من رؤية البصر للبصيرة. بشكل عرفاني روحي. كأنه يستدعي ضمنيا: «قلوب العارفين لها عيون.. ترى ما لا يراه الناظرونا». كأنه في الوقت نفسه يهجو الواقع وشخوصه المزيفة التي لا ترى. كأنه يمتدح في طه حسين رؤيته العميقة للأشياء المخالفة للسطحي والعابر. إن حالة الجمع الكلي التي وصف بها نزار في ضمير لا مرجعية له: «كلهم» التي تستطيع أن تجزئها لشرائح اجتماعية محددة، أو للنخبة نفسها، وتستطيع أن تؤولها على الواقع، هي حالة أكثر إشراقا في غموضها. لكن فيها تخصيص واستثناء في الوقت نفسه فكلهم يقابلها: «أنت» وهو ينفي عن الكل الرؤية، فيما يحقق الرؤيا في ضمير «أنت» الذي يخاطب به طه حسين.
في البيت النزاري اتزان دلالي مدهش، بين الشطر الأول والثاني. فضوء العينين مقارب لضوء النجوم، والإبصار الحاد ليلا لا نهارا. الإبصار في العتمة أقوى. الإبصار في العتمة ينير الأشياء من جهة، ويؤكد على عمق الرؤية من جهة أخرى. لأن البصيرة هي التي ترى أكثر. وفي القرآن: «وعلامات وبالنجم هم يهتدون» الإبصار هنا إبصار اهتداء لا مجرد إبصار سلبي. هنا تحضر النجوم وربيبها القمر بشكل خفي. التشبيه النزاري في محله. أعتقد كشاعر ربما وردت بمخيلته كلمة: «قمران»، «ضوء عينيك أم هما قمران» لكنه أراد التركيز أكثر والتخصيص إلى حيث اختيار النجمتين.. اختيار الخاص من العام. فالنجوم كثيرة جدا ربما بعدد البشر. لكن ثمة نجمتين لا يشبهان أحدا هما عينا طه حسين. وإذا كان التشبيه يحمل مفارقة مأساوية كما قلت سابقا، فإنَّ في الشطر الثاني قدر من التضاد بين النفي والإيجاب، بين لا يرى ويرى، فيما هناك تضاد خفي - دال بين كلهم وأنت. وبين المفارقة والتضاد قرابة جمالية يمكن تأويلها على اختلاف النموذج، ودهشته وعبقريته. نموذج طه حسين الذي كثفه نزار قباني في بيته الشعري الرائع.