512 صفحة
من القطع الكبير
من فينا يقوى على قطع مساحة ديوانه الضخم المتخم بالعناوين؟! لا أحد..
سأكتفي ما أمكنني الاستطاعة من ملاحقة النزر اليسير مما احتواه ديوانه.. مختارا بعضا مما جادت به قريحته الشعرية الثرة... بداية بشاعرنا وهو يمتطي طائره الميمون.
تبسمت المليحة فإذا بي
أرى حلم الشباب يدق بابي
ولا لوم علي ولا عليها
إذا عدنا لأيام الشباب
من قال لك إن للشباب عودة.. الذكريات فقط هي ما يتبقى من عمر الشباب.. ألم تسمع بمقولة شاعرنا القديم:
ليت.. وهل تنفع شيئا ليت
ليت شبابا بوع فاشتريت
ومقولة شاعر آخر تسكنه أمنياته الغاربة الغائبة
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب
دع الماضي للماضي دون اجترار.. فما معنى فات من العمر يا عمري انه أشبه بالأحلام التائهة.
ليلة العيد لديه رمادية لا توحي بالفرح.. من حقه أن لا يفرح على مشهد الدماء.. والدموع.. والدمار. والأحزان.. والهزائم المنكرة.
حطمت قيثارتي في ليلة العيد
وما طربت لترديد الأناشيد
وبت مستغرقا في صمت أسئلتي
لا شيء عندي سوى حزني وتسهيدي
إذا تأملت أحداثاً مروعة
لمن يعانون من قتل وتسريد
هربت من واقعي والنفس متعبة
وتهت بالفكر من بيد إلى بيد
معك الحق أن تصاب بالصدمة والمروع أن تصرخ.. إلا الهروب فإنه آفة الحروب، ألم تقل في قصيدتك الأخرى ما هان عزمك:-
يا نفس إن جل الخطر
لا تسأليني ما الخبر
لا تعجبي يا نفس إن
أسقيت من ماء الكدر
وسرحت بالأفكار حتى
ضقت ذرعا بالفكر
وحملتُ في قلبي هموما
فوق آلام البشر
حبذا لو أبدلت آلام البشر بطاقات البشر. إنها أنسب هذه المرة حكاها بوضوح لا يقبل اللبس:
لا أماري لكنني لا أجاري
جاهلا لا يجيد فن الحوار
ليس من شيمة الفتى أن يداري
في أمور تهز ركن الجدار
أكره الزيف والخدع ومن لا
يكره الزيف والخداع يجاري
وحسمها بقوله الذي لا يقبل النقاش لا الجدل:
لو وضعتم شمس الضحى في يميني
ووضعتم بدر الدجى في يساري
أبدا لن أبيع ماء المحيا
ما حييت بذرة من وقاري
الإنسان موقف ثابت لا يتغير.. ولا فقد ظله.. ومن فقد ظله فقد أصله..
الحنين إلى الماضي يمسك بتلابيبه.. أنه يسترجعها في لهفة وشوق إليه:-
وقفت وحدي على مفترق الطرق
ارنو كما ينظر الأعشى إلى الأفق
وقفت استنطق الذكرى فما لبثت
ان امطرتني بشلال من الأرق
وراح يتساءل مع نفسه أين؟ وأين وأين؟
أين الديار التي كانت خمائلها
معطرات بأنسام الشذى العبق
ودعتها دون أنسى مودتها
وكيف أنسى بداياتني ومنطلقي؟!
كانت شياهي تساوي وزنها ذهباً
أو ضعف أضعفا من عملة الورق
وكسرة الخبز يكفيني تناولها
بالسمن حينا. وأحيانا بلا مرق
لا ابتغي ناطحات السحب لي سكنا
أف لها، ولما تحوله من شقق
مجموعة لا آت.. وخيارات كتلك التي اختارها راعي الغنم وهو يتذر حبه المفقود أيام كان صبيا ثم كبر وكبرت معه فتاة أحلامه: وبعد أن جبل بينه وبين ما يشتهي:
صغيرين نرعى الهم يا ليت أننا
إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
شاعرنا لا يقبل اللوم من أحد:-
دع اللوم فقد شد وثاقي
بأحكام هوى ذات النطاق
ولا يدري فؤادي هل سيأتي
جمال الثغر أم حسن المآقي؟
ولكنني أسير في هواها
أمنيِّ القلب يوما بالتلاقي
ذا استقيتني من كأس ودٍّ
فزدني واجعل السقيا سواقي
حائر في حبه.. قلبه المعنى يدق دقات الوجل -يراها أو لا يراها.. هكذا أحلام العشاق هائمة.. وغائمة.. ومضطربة..
كثيرة معانات شاعرنا.. وكثيرة أطياف حلمه الهاربة أو المغلوبة على أمرها بنفس قدر معاناته.. وتأوهاته وتنهدات.. هكذا الشعر إبحار في خيال لجي أمواجه عاتية..
للذكريات لديه صدى يسترجعه ويرجعه في وجع..
كم تعاني يا فؤادي من زماني
كيف بالإنسان لو حال الرحيل؟
يا زماني قد داني مادعاني
وبراني مابراني من نحول
يازماني لو قتلت اليوم حتى
كن حليما وترفق بالقتيل
قد يموت الحر بالسيف شجاعاً
أو يموت المرء من طرف كحيل
هكذا العاجزين عن الحركة.. يعلقون أجراس عجزهم على الزمن.. ويحملون أثقال فشلهم.. قديما قال الشاعر:-
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
تخرج من دائرة العجز.. إلى أفق التأملات بماذا جاءت.. وجادت؟!
ساد الحياة جهالات وتضليل
منذ تقاتل هابيل وقابيل
وباعت الناس أخراها بفانية
فشاع فيها الخنا والقال والقيل
ثم استبدوا فلا الإنصاف شرعتهم
إذا تقاضوا ولا التحكيم مقبول!
لا يرجعون إلى رشد لغفلتهم
حتى يروا أن سيف الله مسلول
وكيف تمضي حياة الناس آمنة
وبين أضلع قوم يسكن الغول؟
مقطع من تأملاته وتسؤالاته عن الحياة وما يشوبها من تناقضات تعكر وجه نقائها .. وعذريتها .. لا يحياه دون تجاوزات نتحمل نحن ثقل أوزارها.. إنها الحياة ونحن الأحياء.
شاعرنا العمري يطرح سؤاله على نفسه من أنا؟ ويجيب عليه في إيجاز ..
عشت بين الناس محمود السجايا
غير جزاع لدى الخطب الجليل
يالفكري جلَّ عن ذكر الدنايا
ولساني عفَّ عن قال وقيل
أنا من يرنو بعيني للمزايا
إنما طرف يعن الأخرى قليل
الفتى المقدام لا يخشى المنايا
كيف يخشاها وما عنها بديل؟!
حسنا جاء كشف الحساب رابحاً.. ومريحاً.. ومفرحاً.. وأخيراً.. مقطوعته الأخيرة «لعلني وعساني» أشبه بالإضافة المحمود لخيانة.. يقول بنبرة ثبات وثقة في النفس:-
ليس بدعا إذا جفاني زماني
فأنا والزمان مختلفان
الزمان يريد مني خضوعي
وضلوعي تضج بالعنفوان
شاب رأسي وظل صعبا مراسي
والرواسي تلين مما أعاني
جئت حرا وسوف أموت حرا
ما ألفت مذلتي وهواني
هذه صورة لأعماق ذاتي
علني أحتفي بها وعساني
ونحن سويا معك نحتفي بالجميل من القول والعمل .. إنه الزاد الذي يمدنا بالطاقة .. والقدرة على مواجهة الصعاب والمتاعب .. انتهى ...
- الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338