أُتيحت لي الفرصة التي كنت أنتظرها حينما فتحت جامعة الأزهر باب الانتساب لطلاب الدراسات العليا في كلياتها، ولم تكن الجامعات والكليات في المملكة العربية السعودية فتحت أقساماً للدراسات العليا، فعقدتُ العزم على السفر إلى القاهرة في صيف عام 1391هـ/ 1971م؛ لتقديم طلب الانتساب بمرحلة الماجستير، شعبة الأدب والنقد بكلية اللغة العربية. وكنتُ آنذاك مدرساً في معهد الأحساء العلمي، ومضى على تخرجي في كلية اللغة العربية في الرياض نحو سنتين عام 89/69م وأبدى زميل لي(15) في معهد الأحساء العلمي رغبته الأكيدة في أن نسافر معاً للغرض نفسه، وحين حل موعد الحجز اعتذر، ولم يكن هناك متسع من الوقت للبحث عن رفيق بديل، فسافرت وحدي، ولهذه الرحلة حديث يطول، ليس هذا مجال بسطه.
في القاهرة تعرفت على أخوين كريمين وصديقين فاضلين ينضحان كرماً وأريحية وإخلاصاً هما المهندس محمود لطفي بيبرس، وشقيقه أحمد مختار بيبرس، وكان الأول يسكن مع والده في شارع العباسية، ولا زلت أحفظ رقم المنزل، وبصحبتهما شاهدتُ المواقع السياحية في القاهرة، ومن أهمها لدي دار الكتب المصرية في باب الخلق، ودار الآثار المصرية في ميدان التحرير.
في رحلتي الثانية إلى مصر، لتأدية اختبار السنة الأولى في الدراسات العليا عام 1392هـ/ 1972م، التقيتُ بالأخوين الكريمين، وكنا نتحدث دائماً في شؤون الثقافة والأدب والمجتمع ومعنا بعض الحضور، وجرى على لساني ذكر الأستاذ أحمد الشايب، وأثنيتُ على كتبه التي اطلعت عليها، وهي الأسلوب، وأصول النقد الأدبي وتاريخ النقائض في الشعر العربي. فقال أحدهم: إن لنا صلة قرابة بالأستاذ، فأبديت رغبتي في لقائه، وسألت: أذلك ممكن؟ وهل ترتبون لي موعداً لهذا اللقاء؟ فأجبت بنعم، وبعد مغرب يوم الثلاثاء 16/5/1392هـ الموافق 27/6/1992م التقيتُ به في منزله في شارع الملك الصالح في الروضة، وقابلني بكل بشاشة وترحاب، وقضينا أكثر من ساعة أنا أسأل وهو يجيب، سألته عن أساتذته وتلاميذه(16) وعمله في كلية الآداب، وغير ذلك من شؤون الأدب والنقد، وفي آخر اللقاء قلت له: إن لدي أسئلة سأحررها، وآمل أن تجيب عنها؛ لأنشرها في إحدى الصحف أو المجلات السعودية، فأبدى - رحمه الله - موافقته واستعداده، وقال: أنا على وشك السفر إلى قريتي شبرابخوم بالمنوفية قلت: سأبعث إليك الأسئلة إلى هناك، وآمل أن تشفع بالإجابة صورة شخصية لك، فوفّى بما طلبت، وحصلت على إجابته مكتوبة بخط يده على أوراق كبيرة ما زلت أحتفظ بها، ونشرت المقابلة في مجلة اليمامة، ثم ضمنتها كتابي في الأدب العربي الحديث الذي أصدره نادي حائل الأدبي عام 1420هـ/ 2000م. ولبعد عهد المجلة، وندرة الكتاب في المكتبات، ولا سيما خارج المملكة، سأذيل حديثي بنص المقابلة الذي نشر في الكتاب؛ لأنها تتضمن معلومات رواها عن نفسه بنفسه، قد يستفيد منها من يود أن يكتب عن سيرته وجهوده في الأدب والنقد والتدريس والإشراف على الرسائل ومناقشتها.
كان عمره حين قابلته يقترب من الثمانين، وذكر في أحد الأجوبة أن المرض أقعده عن تطبيق المنهج الذي ذكره مجملاً في كتابه الأسلوب، وتضمنت المقابلة ملخصاً لحياته الدراسية والعملية، وتعداداً لمؤلفاته. واستغرق جل المقابلة في الحديث عن بعض الآراء التي طرحها في كتابيه الأسلوب وأصول النقد الأدبي، ووضح رأيه في الشعر المنثور، واتخاذ اللهجات العامية لغة تأليف وكتابة، وذكر أنه أول من وضع مصطلح علم النفس الأدبي في تقديمه لكتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم(17). وكانت محاور الأسئلة وأجوبتها من القضايا التي كانت تشغل الرأي الأدبي في ذلك الوقت. ولا أود أن أسترسل في الإفاضة بالتعليق ما دام نص المقابلة موجوداً في نهاية الحديث.
وكان بين نشر المقابلة في المجلة ونشرها في كتاب أكثر من ربع قرن. عثرت مصادفة قبل طبع الكتاب على كتاب: أحمد الشايب ناقداً للأستاذ الدكتور أحمد درويش فكأنني عثرت على كنز ثمين، فلم أر قبله أي دراسة صدرت عن الأديب الناقد أحمد الشايب، وربما يعود السبب إلى تقصيري في البحث والتنقيب، وأن هناك كتباً أو بحوثاً صدرت عنه، ومما يؤيد موقفي أن الدكتور أحمد درويش لم يذكر أي دراسة كتبت عنه، وليس هو بأقل شأناً ممن ألفت عنهم كتب وبحوث من زملائه في جامعة القاهرة وغير زملائه.
عرفت المؤلف اسماً باحثاً في الأدب والنقد، ولكنني لم أقرأ له شيئاً قبل هذا الكتاب، ولا تضم مكتبتي كتاباً له غيره، ومن خلال ما أقرأ عنه أدركت أنه من مشاهير من يكتبون في الدراسات الأدبية والنقدية المقارنة، ويجمع في اهتمامه بين الأدب القديم والحديث، والأدب الأصيل والمعاصر. وعرفت أيضاً أنه أستاذ في جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان، وأنه له سنوات كثاراً يدرس ويشرف ويوجه ويسهم باقتدار ونشاط في الحركة الثقافية والأدبية في السلطنة، واندمج في المجتمع العماني حتى توقعت أن يتحول عمانياً يرتدي الثوب العماني والقميص العماني، ويرتضخ لهجة عُمانية، ثم علمتُ منذ أكثر من عامين أن جامعة الإمام تعاقدت معه للتدريس في قسم الأدب بكلية اللغة العربية، وكانت شهرته سبقت القسم، وأسند إليه جدول في الدراسات العليا، من مواده الأدب المقارن، وله كتاب فيه وبحوث، وتوقعنا وصوله قبل بدء العام الجامعي، ولكنه لظروف لا أعلمها تأخر عن المجيء، فأسند القسم إليّ مادة الأدب المقارن تلافياً لتصرم وقت الدراسة، وكنت قد درست هذه المادة في مرحلة الدكتوراه في غير جامعة الإمام، ولستُ متخصصاً في الأدب المقارن، ولكنني مجتهد. وقبل أن أباشر التدريس حضر الأستاذ، فقلت: لا عطر بعد عروس.
قضى في الكلية عامين، سعدنا فيها بصحبته وزمالته، وأحاديثه في شؤون الأدب والثقافة، ورحابة صدره، ودماثة خلقه، فلا يلقاك إلا هاشاً باشاً، يقدر الزمالة حق قدرها، ويحترم آراء الآخرين، فما سمعته سفّه رأياً لأحد، أو انتقص فكرة أدلى بها زميل، كان يناقش في هدوء وفي أدب جم، لا تثيره غضبة، ولا يستفزه رأي مخالف، وهكذا تكون شخصية العالم الواثق من نفسه وعلمه.
حرصت على اقتناء ما أصدر، وفي كل مرة أطلب منه كتاباً يحيلني على الحاسب، ويقول: إن كتبي فيه، وكيف لي أن أقرأ في الجهاز كتاباً من أوله إلى آخره، وقد أمضيت نحواً من ستين عاماً، وأنا أقرأ في كتب مطبوعة! ليس هذا شحاً منه، فما مثله يبخل بكتاب، ولكن كتبه المطبوعة ليست بين يديه.
صدر كتاب د. أحمد درويش ضمن سلسلة نقاد الأدب، ويحمل الرقم 13، وهي سلسلة تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، نشر عام 1994م، ويقع في 222 صفحة في حجم دون المتوسط، في مثل مقاس سلسلة أعلام العرب، وقسّمه قسمين: الدراسة في 98 صفحة، ومختارات من ص 100- 219. وهي بحوث ودراسات لأحمد الشايب سبق أن نشرها في بعض الصحف والمجلات، ومنها محاضرة ألقاها في جامعة القاهرة.
تكون القسم الأول الخاص بالدراسة من العنوانات الآتية:
1 - مقدمة من ص 5 - 12.
2 - في التأصيل النظري من ص 13- 43.
3 - النزعة المصرية في الأدب من ص 45- 57.
4 - رؤية جديدة لقضايا قديمة من ص 59- 79.
5 - النقد والحياة الأدبية المعاصرة من ص 81- 98.
هذه هي مجمل العنوانات التي عقدها المؤلف لدراسة الجانب النقدي في مؤلفات أحمد الشايب.
ويرى المؤلف أن أحمد الشايب يعد من نقاد الصف الثاني بعد طبقة العقاد، وطه حسين، وأحمد أمين، وأحمد حسن الزيات(18)، ويضيف قائلاً: «ولكن تراثه النقدي الماثل أمامنا يشكل نموذجاً طيباً يعكس الرغبة والطموح والصراع، والامتزاج بين الأفكار القديمة والأفكار الوافدة، ونقاط التماس بين النقد الجامعي والنقد الصحفي، ويعطي صورة عن درجة الإفادة غير المباشرة التي تشكّلت لدى فريق كبير من مثقفي نقاد الصف الثاني. ومن خلال هذا تبرز أمامنا صفحة من صفحات تطور النقد الأدبي الحديث»(19).
ولعل من أهم النقاط في حياة أحمد الشايب الأدبية والنقدية انتقاله من التدريس في التعليم العام إلى التدريس في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول عام 1929م باختيار من طه حسين، وهو اختيار له قيمته وأثره، وجميع مؤلفاته في الأدب والنقد أنجزها حينما كان في الجامعة. وكان له إسهام في تأليف المقررات المدرسية في التعليم العام، ونشر بحوثاً أدبية كان تميزها سبباً في اختياره مدرساً في كلية الآداب.
القسم الثاني: المختارات، وهي تسعة بحوث، تحمل العنوانات الآتية:
1 - البلاغة بين العلم والفن، ص 101- 107 - ولم يشر إلى مصدره وهو في كتاب الأسلوب(20).
2 - موضوع علم البلاغة من ص 109- 113، لم يشر إلى مصدره وهو في كتاب الأسلوب(21).
3 - الغزل في تاريخ الأدب العربي كما يراه برونتيير، ص 115- 129، نشر أول مرة في مجلة وادي النيل في 31 - أكتوبر - سنة 1928م.
4 - نقد الجاحظ (ثقافته - أسلوبه - شخصيته - ص 131- 153، وهو محاضرة ألقاها الشايب في أسبوع الجاحظ الذي أقامته كلية الآداب بجامعة القاهرة. ولم يحدد تاريخ إلقائها).
5 - الأدب المصري كيف يكون، ص 155- 168، نشر في مجلة وادي النيل في أكتوبر سنة 1928م، ثم أعاد نشره في كتاب (أبحاث ومقالات).
6 - في وظيفة النقد الأدبي، ص 169- 177، لم يذكر مصدره(22).
7 - ديوان الشفق الباكي: درس وتحليل، ص 179- 191.. نشر في كوكب الشرق في 16 ديسمبر 1928م. والديوان لأحمد زكي أبي شادي.
8 - الأسلوب والشخصية، ص 193- 204، لم يشر إلى مصدره(23).
9 - الشعر المعاصر (1-2) ص 205- 219، نشر في مجلة الشباب، الحلقة الأولى في 16 - مارس - 1936، والأخرى في 30 - مارس - 1936م.
وبعد: فالناقد الأديب أ حمد الشايب يستحق أن تكتب عنه أطروحة علمية تتناول بالدرس والتحليل حياته ومؤلفاته المدرسية في التعليم العام وآثاره الأدبية والنقدية في الجامعة؛ فكتبه وأبحاثه، ولا سيما الأسلوب، وأصول النقد الأدبي، وتاريخ النقائض، وتاريخ الشعر السياسي فتحت مجالاً خصباً لكثير من الدارسين، ومهدت لهم سبل البحث. ويأتي كتاب الأستاذ الدكتور أحمد إبراهيم درويش لمسة وفاء وتقدير وإنصاف لعلم من أعلام النقد في العصر الحديث.
** ** **
الحواشي:
(15) عبد العزيز بن عبد الرحمن الغنام.
(16) على سبيل المثال قال عن تلميذه شوقي ضيف: باحث نشيط، يستغل وقته في التأليف. وقال عن تلميذه يوسف خليف: باحث ذكي، ولكنه مقل. وقال عن تلميذه أحمد عبد الستار الجواري، كان عندي منذ أسبوع في زيارتي، وجلس في مقعدك الذي تجلس فيه الآن. وقد أُنسيتُ أن أطلبَ منه نسخة من كتبه التي عَزَّ عليّ الحصول عليها، مثل: أبحاث ومقالات، الجارم الشاعر، ملحمة الراعي النميري، ومؤلفاته المدرسية قبل انتقاله إلى كلية الآداب بالجامعة المصرية.
(17) تاريخ النقد الأدبي عند العرب، من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، طه أحمد إبراهيم (ت 1354هـ/ 1935م)، بيروت.
- قسم الأدب - كلية اللغة العربية بالرياض