الفن الساذج يقارب الفنون الفطرية والبدائية وفنون الأطفال ويحتفظ بخصوصيته
لولم يقدر لي الدخول في معهد التربية الفنية الذي يعد مصنع التشكيليين السعوديين وقاعدة انطلاق الرواد وتأسيس الحراك التشكيلي لكنت ممن ينزعجون لو قيل لهم إن ما نبدعه في بداية تلمسنا لأبجديات الفن يعد من الفن الساذج بالرغم من أنني لم أمارس هذا الفن الجميل الصادق فقد كنا ممن جاء لتعلم الرسم والتلوين وخلافها، بمثالية وبقدرات فناني عصر النهضة، حيث تلقينا أسس الرسم خصوصًا رسم الجسد والطبيعة الحية وخروجنا خارج الاستوديو أو الطبية الميتة في الاستوديو، على أيدي فنانين عرب رواد في دولهم ما زالت أسماؤهم تتصدر تاريخ الفنون العربية ولكون رسم الجسد من أصعب ما نواجهه في بداية تلمسنا لأسس الرسم فقد كانت أول معلومة حول هذا الأمر أن الفنان الإفريقي البدائي من خلال حدسه وحسه الفطري قد توصل إلى أن قياس الرأس إلى الجسد واحد إلى تسعة وهو القياس الذي توصل إليه اليونانيون وبتجارب في علم الرياضيات إلى أن النسبة الرأس للجسد واحد إلى تسعة.
ظل هذا التمسك بالقيم الفنية والقياسات المثالية لكل ما يمكن أن ينتجه الفنانون أو المصورون الحرفيون عند اليونان ومن جاء بعدهم من الحضارات إلى ما بعد عصر النهضة، وصولاً إلى النهضة المعاصرة في أوروبا ومن خلال الثورة الثقافية والبحث عن سبل التعبير الحرة غير المقيدة بتلك الأسس على يد كثير من الفنانين الذين خرجوا بفنونهم إلى آفاق جديدة منهم، سيزان، غوغان، كاندينسكي، بول كلي، بيكاسو، هنري مور.
ظاهرة الفن الساذج عالميًا
أولئك الفنانون الذين اتجهوا إلى البحث في فنون حضارات الشعوب والتمعن والانغماس في تراثها الشعبي الذي يمكن اعتباره استخلاصًا لفنون حضارات سابقة، مخاض مرت به الفنون وكما حدث التبدل والخروج من عباءة القياسات والقيم الفنية الشديدة بولد فن جديد يحمل اسم الفن الساذج أو art naïf صفة أو عنوان لفنون ينتجها أناس من عامة الناس لم يتلقوا أي دروس أو يطلعوا على فنون الآخرين وإنما تأتي كما هي في ذاكرتهم البصرية تشمل الرسم والنحت بإحساس فطري بدائي لا يعتمد على القياسات أو القيم الفنية ولا يخرج من حدود البيئة والطبيعة والحياة المحيطة بهم والمجتمعات فن يلتقي مع الفنون الفطرية والبدائية، ويجمعه قواسم مشتركة مع فنون الأطفال ببعض الصفات.
واعتبار ما يشاهد من هذه الفنون من مراحل التاريخ الذي بدأ بعد انقضاء عصر الفن الوحشي، فأصبح الفن الفطري الأبرز قريبًا جدًا من فن الشعب. أما الفن البدائي فله مدلول تاريخي ويربط بالحضارات الإنسانية الأولى، وقد سبق وجوده وجود الكتابة. أي جاء في مرحلة الأميّة الإنسانية.
هذا الفن لم يكن مقبولاً عند الفئات المثقفة أو أصحاب الشهادات الأكاديمية المتخصصين في الفنون ما جعله يبقى في حدود الأفراد الذين ينتجونه ويسوقونه لأبناء جلدتهم في القرى والأرياف التي يرى ساكنوها أن تلك اللوحات أو المشغولات اليدوية نتاج عن عبقرية الحرفيين، ولنا في هذا الفن أمثلة كثيرة عربية وعالمية ومنها ما يمارسه الرسامون الفطريون في أرياف مصر على جدران المنازل ترحيبًا بالحجاج والمعتمرين أو رسم أبو زيد الهلالي على جران المقاهي وفي المجالس الشعبية في المنازل. وكذلك من يقوم بالخط على اللافتات، والرسامين على السيارات كما هي في الهند وباكستان، تلك الرسوم يمكن إدراجها ضمن الفنون الواقعيّة دون دراسة أكاديمية، أقرب لفنون الأطفال في جانب المبالغة.
عودة الفن الساذج
تلك المرحلة من الإهمال أو عدم القناعة به وعدم اعتباره فنًا له قيمته وأهميته عودًا إلى مصداقية تنفيذه بعيدًا عن التحكم من النقاد أو المحللين أو واضعي القيم الفنية لبناء العمل الفني للفن حيث بدا يأخذ مكانته في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ويعد الألماني ويلهام أوهد المشهور بجمع الأعمال الفنية أول من اكتشف الفنانين السذج، نتيجة إعجابه بمن كانوا يمارسون الفن أيام الآحاد فقط، لانشغالهم بمهام ووظائف أخرى بقية أيام الأسبوع، وأحيانًا كانوا يمارسونه في أوقات الفراغ القليلة لديهم، هذا الفن أصبح مادة مهمة في بحوث الدراسات التاريخية والفنية في كليات الآثار أو كليات الفنون الجميلة في كل مكان من العالم وإدخاله ضمن الفلكلور لارتباطه بالحكايات والأساطير وقربه من الخيال السريالي وأحيانًا إلى ما بعد السرياليّة، والأقرب إلى روح الإنسان وأحاسيسه العميقة دون رتوش، لا تحمل تلك اللوحات نظرة سياسية أو غيرها من الأمور التي تشتت العقل وتغيب الجمال، وإنما هي الأقرب إلى واقع الإنسان في كل العصور، بالرغم مما يظهر به من ضعف في الأداء أو تراجع في بناء العمل حسب نظرة البعض وذلك عائد إلى كونه فنًا تلقائيًا يعتمد على لحظة التنفيذ دون سابق إنذار أو تجهيز أو اسكتشات، لهذا تظهر خطوطه أكثر صرامة وألوانه أساسية دون مزج أو تحليل وتدوير.
مشاهير الفن الساذج في العالم والخليج
الفن الساذج رغم عدم قبول البعض لتسميته لم يعد فنًا مهمشًا أو غير معترف به بقدر ما حظي باهتمام بعد الحرب العالميّة الثانية لافتًا، خصوصًا في مختلف المدن الأوروبية التي أقامت له العديد من المعارض، وأنشئت له المتاحف المتخصصة، أبرزها (متحف لافال) في فرنسا، حيث ولد الفنان الجمركي الساذج (روسو). وفي مدينة (نيس) بفرنسا أيضًا، يوجد متحف متخصص بهذا الفن.
وبهذا الاهتمام يصبح فنان الفن الساذج لا يقل في الشهرة عن فناني عصر النهضة أو ما بعدها وصولاً إلى القرن العشرين حيث أصبح لهذا الفن مشاهير أيضًا منهم الفنان الفرنسي المعروف (هنري روسو). وعامل المطبعة (بيرونة) وعامل المشاتل الزراعيّة (بوشان) وموظف البريد (فيفان) و(رامبر) و(بومبوا) عمال الحفريات والمزارعين، ومصارعي السيرك.
كما كان للعالم العربي حقه من مشاهير هذا الفن الذين لا يرون فيه ما يخجل بقدر ما أصبحت لوحاتهم مصدر رزق لهم وإقبال من الجمهور منهم الفنان السوري الشعبي أبو صبحي التيناوي الذي كانت أعماله الفنية متخصصة في (عنترة) أبًا للفوارس، وفي (عبلة) أجمل النساء، كما أن هناك عديدًا من الفنانين والفنانات في مصر وتونس والجزائر وصولاً إلى الخليج، التي تحوي الكثير من الأسماء ومنها المملكة العربية السعودية إلا أن معرفتنا بما سيلحقنا من عتب فناني الفن الساذج أو الفطري في المملكة لو أشرنا إليهم وأعلنا الأسماء وكان الصفة جريمة أو معيبة مع أن الفن الساذج أو الفطري يعد أصدق الفنون الذي لا يشوبه تقليد أو تبعية لأحد وإنما يخرج من القلب إلى اللوحة دون رتوش أو تزويق أو كذب ونفاق.
- monif.art@msn.com