عناصر السرد متكاملة وفضاء المكان رحب
تطل وجوه الشخوص وتتحرك الأحداث ويشخص الزمان ويتوهج المكان وتشتعل في ذات الراوي رغبة مستفيضة أن يشرح الكثير من المواقف، ويسرد المزيد من الحكايات، لتكون الحكاية أمام القارئ كاملة غير منقوصة، وهذا ما سعى إليه القاص والروائي عبد العزيز الصقعبي في روايته «حالة كذب» حينما دفع بالكثير من الصور والمشاهد والرؤى المتشابكة.. تلك التي تجعل من الإنسان مادتها ومكونها الأساس.
فكمدخل مهم؛ لا بد أن نشير إلى أن فن الرواية لدى عبد العزيز الصقعبي هو في الأساس رسالة إنسانية معبرة ورؤية إبداعية متكاملة تنهل من معين الحكاية التي فتن فيها الكاتب وأسس لها منذ بديات كتاباته الأولى.. فكلنا نذكر قصص الحكواتي يفقد صوته، وما تلاها من أعمال قصصية وروائية، ونصوص مسرحية، وكتابات متنوعة، لا تخرج عن كونها بثاً لروح الحكاية في الوجدان العربي الذي عرف بعشقه للحكاية رواية واستماعاً.
عناصر السرد في رواية الصقعبي «حالة كذب» متكاملة المعالم، لتجد فضاء المكان وقد أثثه الراوي بشكل بديع، فقد استهل حكايته مع الذات والحياة بظهور شخصية «خميس ياسين» كظل للشخصية المحورية منصور نبيل، فتحاول أن تنتزع منه بعض الاعترافات والأحاديث التي ظلت لعقود معطلة، فبات وكأنه حديث مع الذات، أو عفو الخاطر، ليصنع الكاتب من المكان صورة ممكنة للهرب من منغصات كثيرة؛ يعيشها في أماكن مختلفة من العالم.. بدايتها بين الرياض والطائف.. ونهاياتها المفتوحة في مطارات العالم غربة وهروباً!!
أما ركيزة الزمان فإنها ممتدة وذات أفق مترامٍ، ينشط فيها العقل وتستدرج الحكاية ذاكرة الرجل لنبش ماضي «خميس ياسين» أو شخصية القرين الذي لازمه وبات ينبش في حرث الذاكرة، ليولد تلك الصور الحية والمنطفئة عن زمن بات أكثراً ضبابية وتهالكاً.
لقد برع الراوي في تسجيل الملاحظات لتكون حديثاً متقناً، يسهم في بناء معادلة المتعة بالوقت أو الزمن، والفائدة من الصور المتواترة في تلك الرؤى التي تجسّدت في تأملات الشخصية المحورية للحياة من حوله، وتدوين أبرز محطات الحياة في رحلة البحث عن الذات في هذه الاشتغالات المتكررة.
استخدم الروائي الصقعبي في هذا العمل ذاكرة المتحدث، الذي يبرع كثيراً في رسم خطوط ومعالم الحكاية الرئيسة، ليحولها من حكاية دارجة إلى لغة فنية يتفاعل معها، ويجعل الكتابة من خلالها هاجساً ووعياً، حتى إن الفكرة الرئيسة في هذه الرواية تأخذ صفة لغة التأمل، واستنباط المشاهد المؤثرة، وتسجيل المواقف المثيرة، لكنه لا يتخلى عن لغة السرد المتوازنة والهادئة في الكثير من العبارات والصور الذهنية التي يتفاعل معها طوال رحلته في هذه الحياة التي تمتد لعقود، فيسعى من خلال طاقة الذكرى إلى تقديم رؤية متكاملة عن مآلات الحياة المعاصرة.
فكما أن اللغة هادئة، ومهادنة، فإن الأحداث جاءت أكثر هدوءاً، إذ لم يسجل القارئ أي موقف صادم أو خارج عن نسق الحكاية أو الحدث المعتاد، إلا أن الراوي مدفوعاً بقلم الكاتب الصقعبي برع كثيراً في جعل الأحداث سلسة ومتواترة وتتنامى إلى لحظة واحدة يكون فيها الإنسان هو المصدر المؤثر في هذه الرؤى والصور والأحداث، فتتوارد بطابع متماسك لا غرابة فيه أو تخيل سوى ما تتركه لحظ اللاوعي في مخيال السرد الذي يستنبطه الكاتب في ثنايا هذه الحكاية الفريدة التي يتفنن في عرضها ويستدرج القارئ نحو تفاصيلها بشيء من التشويق والتأمل.
بيئة السرد في هذه الرواية تأخذ الكثير من الأبعاد فتارة، تجد أن البيئة التي رسمها الكاتب للأحداث محلية مغلقة ومغرقة في خصوصيتها على نحو أحياء في مدينة الطائف والرياض، وأخرى منفتحة وفضاء مكشوف على العالم الفسيح، لتمثّل الرواية هاجساً استرشادياً يؤكد على أن حكاية الإنسان ومعاناتها لا يمكن أن تكون ذات شأن خاص، إنما يشترك فيها الجميع، لكن ما يميز هذه الحكاية عن تلك هو أسلوب عرضها، وهذا ما يجعل عنصر الاستمتاع والتأمل في الرواية وارداً، لا سيما حينما يكون هناك أكثر من راوٍ لهذه المواقف والصور؛ حتى وإن اختلفت بيئة السرد أو دلالات المكان والزمان فيها.
فكرة النص الروائي «حالة كذب» مستمدة من رؤية يعيشها الكاتب تؤكد على حقيقة أن الإنسان مجبول على اقتفاء صور الحياة والتفاعل معها كرسائل ممكنة، تهون علينا غلواء المعاناة وضيرها، فما فعله «منصور النبيل» حينما أخذ على عاتقه مهمة تفتيش جيوب الزمن الذي يحصي على «خميس ياسين» كل تحركاته وسكناته وآهاته التي دونها في مذكرته التي فقدها في مطارات الغربة والرحيل المتواصل بحث عن مكان آمن؛ لذلك فإن الأحداث تنسج ذاتها بذاتها من خلال مزيد من خيوط المعاناة التي يوفرها الراوي، لتكون مصدر إلهام ومتعة للقارئ الذي شغل برحلة هؤلاء الشخوص الذين تباينت أحلامهم، واتحدت أحزانهم في هذه القصة الشيقة.
** ** **
إشارة:
- حالة كذب (رواية)
- دار ضفاف والاختلاف - الجزائر - 2015م
- تقع الرواية في نحو (176صفحة) من القطع المتوسط