مطلعها:
أُشْدُدْ رِحالَكَ بسمِ اللهِ مَجراها
ولا تَخافَنَّ من دُنيَاكَ عُقباها
بدأت نظمها بينما كنت أستقل سيارتي في الطريق إلى عملي صباح يوم ماطر جميل، كان كل من وما في المدينة فرحاً سعيداً ذلك اليوم بالمطر الذي انحبس عنها طويلاً، ومن فرط فرحي بهطوله تمنيت لو لم أكن في المدينة بين جموع السيارات التي تجوبُ شوارعها رائحة غادية، بل تمنيت لو أنني خارجها في فضاء برها الجميل، والمطر يهطل ليزيل عن نفسي جفافاً ران عليها طويلاً، إلا أن حُلمي هذا سرعان ما تلاشى حين انضمت سيارتي إلى جموع السيارات الواقفة أمام إشارة المرور الحمراء، وهي تضخ عوادمها غازاتها التي تَزكم الأنوف برائحة سمومها، فتضيق بها صدور أصحابها، وهم محشورون مثلي داخلها، خصوصاً عندما يتوقفون بها أمام الإشارة، حيث يزداد عندها انبعاث الغاز منها، فلا يستطيعون له ردّا، أو يجدون منه مَهرباً أو مَفَرا.!
في مثل هذا الموقف الصعب، والظرف العصيب، كنتُ، كما الآخرين في انتظار ضوء الإشارة الأخضر التي ما إن أشرق نورها إلا وتحركت جموع السيارات في وقت واحد وسُحب دخانها وغازها تنبعث منها بكثافة، أما السيارة التي انطلقت أمامي فقد ضخت من عادمها كمية من غازها ودخانها ضربت بهما وجه سيارتي، حيث وقع شيء منه على زجاجها الأمامي، كما تسرب بعضه إلى داخلها، فبلغ مني التذمر مبلغاً ألْجَأني مُكرهاً إلى تضمين مطلع قصيدتي وبيتين بعده كلماتٍ غاضبة تُعبر عما اعتراني من ضيق، وكنتُ وأنا أخُطّ بقلمي تلك الكلمات أو المفردات الغاضبة، أرفضُ أن تكونَ «الرياض» عاصمة الوطن الغالية من بين المدن المقصودة بتلك «المفردات» و»الصفات»، لهذا السبب تجدني لم أستعمل كلمة «المدينة» كما لم أذكر اسمها «الرياض» في أي من أبيات قصيدتي، بل استعملت مفردةً أخرى بدلهما هي «المدائن»، إمعاناً مني في إبعادها عما يسوؤها أو يخدش شيئاً من احترامنا واعزازنا لمدينتنا «الرياض» ولمواطنيها الكرام!
والغريب في دنيا سيارات المدينة، أن صاحب كل سيارة تجده يتذمر بسبب مايصله من غاز سيارة جارِه، دون أن يخطر بباله أن جاره هذا قد يتذمرُ مثلَه بسبب ما يأتيه من سيارته أيضاً، لذا ترى كلاًّ منهما ينظرُ إلى جارِه شزرًا وهو يغطي أنفه وفمه بطرف غطاء رأسه، ويَهزُّ رأسَه تَبرما.. ولا أبَرّئُ نفسي، فإنني عندما لُمْتُ صاحبَ السيارةِ التي تحركَتْ أمامي، والتي قذفَتْ سحابةً من غازِها على سيارتي فتَسربَ بعضه إلى داخلها، لم يخطر ببالي أنني قد أكون تصرفت مثله تجاه السيارة التي ورائي!
وأخيراً، فإنني صرت أخشى الآن أن يأخذ من يقرأ قصيدتي بنصيحتي التي ذكرتها في مطلعها حين قلت: (أشدد رحالك)، فيشدوا رحالهم إلى واحتي الجميلة، التي وصفتها في الأبيات الثلاثة الأخيرة، ويقيموا فيها بسياراتهم ما شاؤوا، ولا يغادروها إلا وقد صارت قاعاً صفصفاً، ولكني أحمد الله على أني لم أذكر اسمها أو مكانها، سوى أنها: (من أرض نجد.. ونجد لست أنساها!!
تلك، عزيزي القارىء، مجرد خواطر مسلية أوحت لي بها قصيدتي، التي ستروي لكم حكايتها نظماً، بعد أن حكتها لكم نثراً، راجياً أن تعجبكم وهي منظومة مثلما أعجبتكم وهي منثورة! وإليكم قصيدتي:
السيارات نعمة.. ولكن..!
أشدد رحالك بسم الله مجراها
ولا تخافن من دنياك عقباها
دع المدائن واهجرها بلا أسف
إن المدائن أصل الداء سكناها
دع المدائن لا تأبه لزينتها
فريحها منتن والنفس تأباها
فإن يقولوا: مجال الرزق موطنها
ولا مناص، ومن للطير يرعاها؟
فقل: سواها، ففي الارجاء متسع
ودع إلى الله يسراها وعسراها
ولست أشكو، وأيم الله، من أحد
على ثراها، ولا يشكو رعاياها
وما صبوت لدار ليس مالكها
آل السعود، بهم يزهو محياها
بل أشتكي جوها فالغاز لوَّثه
واهاً على جوها في أمسها واها
هواؤها خانق والسم منبعث
من مركبات كمثل النمل مرآها
وإنما منيتي في واحة سكني
طاب الهواء بها والقلب يهواها
في جنة عذبة الأنسام وادعة
من أرض نجد، ونجد لست أنساها
في روضها تصدح الأطيار آمنة
حول الغدير، وزهر الروض وشَّاها
- أحمد بن عثمان البسام