مرت الذكرى «67» من نكبة فلسطين التي تصاحبت مع ذكرى الإسراء والمعارج لأفضل مخلوقات الأرض عليه أفضل الصلاة والسلام.
ولعلها مُصاحبة فيها كثير من العِبر لمن تدبر ووعى.
مرت الذكرى في هدوء ليس الذي يسبق العاصفة إنما الذي لا يسبق أي شيء، مرت ذكرى «67» من النكبة والوجع العربي يزداد اتساعا ما بين العراق وسوريا وليبيا واليمن، وتاهت بالتالي فلسطين في الجرح المتسع.
مرت ذكرى»67» لنكبة فلسطين والمستوطنات تلتهم الأرض المقدسة تحت مرأى ومسمع من العرب، ولا حيلة لهم سوى التنديد والشجب
مرت ذكرى»67» لنكبة فلسطين وخلافات الأخوة الأعداء تزداد اتساعا ليستثمر العدو تلك الخلافات لصالحه.
حكايتنا بدأت عام 1948م، عندما استيقظ العرب على «بيع فلسطين» عام 1948م ولعلهم شاركوا في مسالة «البيع» بطريقة أو أخرى؛ فحسن الظن لايشفع لصاحبه ارتكاب الحماقات.
استيقظ العرب وبريطانيا تنهي انتدابها لبداية عصر «الاستعمار الأكبر» وفاء بوعد»بلفور» أن يمنح فلسطين بلدا لكل يهودي متشرد، وعلى الجانب الآخر أصدرت الأمم المتحدة قرارا بتقسيم فلسطين إلى دولتين دولة يهودية ودولة عربية، وهو القرار الذي عارضه العرب في الوقت الضائع من خلال حرب العرب التي ضمت ست دول عربية خاضت حروبا شرسة مع الجيش اليهودي الذي كان عبارة عن مليشيات واستمرت تلك الحرب مدة عام حتى مارس 1949م وانتهت بهزيمة العرب والذي عُرفت أدبيا «بنكبة العرب» وعقد اتقافية هدنة بين مصر وإسرائيل.
واستطاعت إسرائيل بتلك الاتفاقية أن تحصل على أكثر مما قرره لها قرار تقسيم الأمم المتحدة، ليصبح العرب بكل المقاييس «الخاسر الأكبر» في تاريخ الأمم.
وسواء أكان فساد الضمير والفكر أسبق من فساد الأسلحة في تلك الحرب التي مازال عارها معلقا في صفحات تاريخ العروبة الحديث ودماء ضحاياها تستغيث ثأرا ، أو وجود خونة وصهاينة في صفوف العرب، أو قلة الخبرة العسكرية عند جيوش العرب في ذلك الوقت.
تظل حقيقة الهزيمة رغم الجزء المضيء غير مكتملة بسبب روافع الاحتمالات والتكهنات ولأن العدو هو من يملك سلطة صناعة الحقيقة.
وسيظل السؤال معلقا كيف هزم بعض المتشردين من اليهود جيوش «ست دول عربية»؟، ولعله سؤال أوجد هاجس إجابة عند نزار قباني أقرب إلى طبيعة العربي نفسه.
إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ»
لأننا ندخُلها
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابه
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها..
بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ
السرُّ في مأساتنا
صراخنا أضخمُ من أصواتنا
وسيفُنا أطولُ من قاماتنا
خلاصةُ القضيّهْ
توجزُ في عبارهْ
لقد لبسنا قشرةَ الحضارهْ
والروحُ جاهليّهْ...
بالنّايِ والمزمار..
لا يحدثُ انتصار».
عرفنا متى بدأت الحكاية، لكن كيف بدأت الحكاية؟.
يستطيع كل منّا أن يتخيل بداية تلك الحكاية ، بداية تتوافق مع إدراكه وفهمه لطبيعة الأمور والأشياء ولطبيعة الإنسان ذاته.
قد يرى البعض أن الصراع بين الخير والشرّ بداية منطقية للحكاية، وقد يرى آخر أن الصراع في سبيل البقاء بداية منطقية للحكاية، وقد يرى ثالث أنه صراع الضعيف الذي لايملك سوى الحق في زمن اختلفت فيه معايير وأدبيات الحق صراع مع القوي الذي يساند باطله قوة السلاح والمال واستعباد الرأي العام العالمي. وقد يرى رابع إنه صراع التاريخ الصحيح والتاريخ المزيّف، وفي زمن ثورة المعلومة والصورة يًصبح سهلا تزييف الصحيح كما يُصبح سهلا إثبات صحة المزيف.
أو بداية حكاية كما وصفها لنا سميح القاسم. في قصيدته أطفال 1948م
«كوم من السمك المقدد في الأزقة..
في الزوايا
تلهو بما ترك التتار الإنكليز من البقايا.
أنبوبة.. وحطام طائرة..وناقلة هشيمة
ومدافع محروقة..وثياب جندي قديمة
وقنابل مشلولة..وقنابل صارت شظايا»
ووجه آخر من البداية كما يصفها محمود درويش.
يا أبي! هل غابة الزيتون تحمينا إذا جاء المطر؟
وهل الأشجار تغنينا عن النار، وهل ضوء القمر
سيذيب الثلج، أو يحرق أشباح الليالي
إنني أسأل مليون سؤال
وبعينك أرى صمت الحجر
فأجبني، يا أبي، أنت أبي
أم تراني صرت ابنا للصليب الأحمر»
كل البدايات تتشابه وإن اختلفت لأن الوجع واحد؛ وجع التشرد والغربة الذي مازال ليله يمتد ويمتد حتى أوشكنا على الإيمان أن لا نهار يستظل خلف الأفق.
« وبكينا.. يوم غنّى الآخرون
ولجأنا للسماء...ولأنّا ضعفاء.. ولأنّا غرباء..
نحن نبكي ونصلي..يوم يلهو ويغني الآخرون.
***
وحملنا.. جرحنا الدامي حملنا
وإلى أفق وراء الغيب يدعونا.. رحلنا
شرذماتٍ.. من يتامى.
وطوينا في ضياعٍ قاتم..عاماً فعاما
وبقينا غرباء –سميح القاسم-
إنها حكاية الشعب المقهور الذي مايزال يحتفظ بمفاتيح أبواب بيته الضائع خلف تراكمات الظلم والاستبداد، لكنه الأمل المعلّق في تلك المفاتيح أن يوم العودة سيأتي سيأتي لا محالة.
«ولنا الماضي هنا. ...ولنا صوت الحياة الأول . ...ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا. . والآخرة ْ . ..فاخرجوا من أرضنا . ...من برنا. . من بحرنا
من كل شيء، واخرجوا من ذكريات الذاكرة « –محمود درويش-
شعب رغم كل محن التشرد والتهجير والإبعاد ما زال يحلم بالعودة ، بل ما يزال يؤمن بالعودة.
« يا أمنا انتظري أمام الباب إنا عائدون
ماذا طبخت لنا؟ فإنا عائدون
هاتي بقول الحقل! وهاتي العشب! إنا عائدون!»-محمود درويش.
إن الإيمان بالحق قوة لا يستطيع الزمن هزيمته، إن فلسفة العودة عند كل فلسطيني مرتبطة بذلك الإيمان الذي يتوارثه جيلا عن جيلا، لتًصبح أغنية العودة الوجه الآخر من الوطن.
سنرجع يوما إلى حينا...ونغرق في دافئات المنى..
سنرجع مهما يمر الزمان..
وتنأى المسافات ما بيننا..»-هارون الرشيد-
لقد غاب بريق ذكرى نكبة «زهرة المدائن» عن ذاكرة العرب، لأن النفوس مثقلة بالجرح الجديد والعدو الجديد، فأصبح العربي عدوا للعربي وما أصعب أن يُصبح الأخ عدوا للأخ حينها كلاهما يقتسمان حزنك وألمك، وهذه نكبة جديدة.
مرت الذكرى «67» لنكبة فلسطين وماتزال القدس ترتدي زيّ الحداد، تنتظر عيد التحرير وحتى يأتي ذاك ستظل مدينة الأحزان.
«يا قدس، يا مدينة الأحزان
يا دمعةً كبيرةً تجول في الأجفان
من يوقف العدوان؟
عليك، يا لؤلؤة الأديان
من يغسل الدماء عن حجارة الجدران؟
من ينقذ الإنجيل؟
من ينقذ القرآن؟
من ينقذ الإنسان؟
-نزار قباني-
تحية إجلال لكل مناضل ومناضلة فلسطيني.
- جدة