(13- بين التاريخ والكِهانة)
ألم يقل (كمال الصليبي) في كتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب)(1): إن (شكيم) هو: (الكشمة) في منطقة (رجال ألمع)؟
أجل ذلك ما رأيناه يزعمه في المقالات السابقة، ثمَّ سيأتيك في كتابه الآخر (خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل)(2) فيقف أمام الاسم نفسه (شكيم)، الذي توجَّه إليه (إبرام الآرامي)، كما يسمِّيه، فإذا هو يقول: إن شكيم هي: (قرية القَسَمَة)، في (سَراة زهران).
أولم يقل أيضًا: إن (غابة ممرا)، التي كانت موطن (إبراهيم)، هي: (النَّمِرة)، شرق (القنفذة)؟(3) أجل، لكنه سيأتيك في كتابه (خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل)(4) فيقف أمام المكان الذي أقام فيه من يسميه إبراهيم الآرامي- ولديه من (إبراهيم) ستة: (إبراهيم العبراني)، و(إبراهيم الآرامي)، و(إبراهيم التكوين 15)، و(إبراهيم شباعة)، و(إبراهيم اليَمَن)، و(إبراهيم أو أبو رُهْم السَّراة).. ويخلق ما لا تعلمون!- وذلك المكان هو (غابة مورة)؛ فيقول: إنه قرية (الموراة)، إلى شمال (القَسَمَة)، في (سَراة زهران).
أ ولم يقل كذلك إن إبراهيم كان في (حبرون)، وزعم أنها قرية (الخربان) في منطقة (المجاردة)؟
أجل، ومع ذلك سيأتيك في كتابه (خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل)(5) فيقف أمام مكان كان فيه إبراهيم يقال له: (حاران)، فيقول: إنه قرية (خيرين)، في منطقة (الطائف).
ولديه أن (إبرام/ إبراهيم) جدَّ العبرانيّين كان في (القنفذة)، ومن نسله كان هناك (بنو إسرائيل). وثمّة (إبرام/ إبراهيم) آخر كان في سَراة زهران، وهو جدّ الآراميِّين هناك، ومن نسله كان هناك (بنو يهوذا، أو اليهود)! وسبحان الخلّاق الباري، الرجلان بالاسم نفسه، ومواطنهما كذلك متشابهة الأسماء، وأماكن ترحّلهما. وكذا أولادهما وأحفادهما: (إسحاق)، و(يعقوب) و(يوسف).. إلخ!(6)
ومع أن التشابهات، ومهما كانت طفيفة، ما فتئت تلفت (الصليبي)، وبصورةٍ كثيرًا ما تبدو عجيبةً في افتعالها وتكلّفها، فإن التشابهات في ظاهرة إبراهيم وآله جاءت غير مؤثِّرة فيه لتوحيد الصورة. بل على النقيض من ذلك، دفعته إلى تمزيق الصورة في شخصيّات شتَّى؛ وذلك لأمرٍ في نفس كمال! منكِرًا بإصرار بعض ما ورد في (التوراة) حول هذه الشخصيَّات؛ لأنه، ببساطة، لا يتّفق مع قسمته إيّاها بين (عسير) و(القنفذة) و(زهران).(7) فهو يَقبل التوراة معتمَدًا للتأويل، ويرفضها في الوقت نفسه حينما لا توافق تأويلاته. وبين القبول والرفض نصٌّ لم يعد معتدًّا به وثيقةً تاريخيَّةً أصلًا، حتى من قِبَل الآثاريِّين الإسرائيليِّين أنفسهم(8)، منذ ثمانينيَّات القرن العشرين؛ بل صاروا يفرِّقون بين تاريخ إسرائيل وما جاء في التوراة من تراث، أُعيدَ تحريره وتركيبه أدبيًّا من الكهنة وكتبة السبي البابلي، حنينًا إلى ماضيهم في أرض كنعان؛ فداخلته الأساطير الشعبيَّة المنتشرة بين شعوب المنطقة في ذلك الزمان، مما يُهْوِد وأُسْرِل على أيديهم، مع ما زادوا عليه من أكاذيب وتخييلات.(9) وبذا فلا يعني أن لا أثر للرواية التوراتيَّة في (فلسطين) أنه كان لها وجودٌ تاريخيٌّ (حرفيٌّ) في مكانٍ آخر. وهي رواية سعى (الصليبي) جاهدًا، ومَن اقتفى أثره، في حملةٍ تطوّعيَّةٍ للبحث عن تاريخيَّتها؛ فكانوا بذلك أغرب ادِّعاءً من التوراتيّين التقليديّين أنفسهم؛ من حيث إنهم لكي ينفوا تاريخ بني إسرائيل عن فلسطين ركبوا رؤوسهم- في نزعة لا تخفى سحنتها الإديلوجيَّة- لاختلاق تاريخٍ بديلٍ أشدّ وهميَّة للتوراة في جزيرة العرب.
وكذا شَقّ صاحبنا شخصية (موسى) نصفين، فصار موسيَين.(10) فأمّا الأوّل، فـ(موسى ألوهيم)، أو (موسى يهوه). وهذا رجل من (اليَمَن الشمالي) اليوم. وأمّا الآخَر، فـ(موسى بن عَمْرام)، (بالميم). وهذا هو (موسى العسيري)، أخو (هارون) و(مريم)!(11) وهو مُصِرٌّ دائمًا- وتلك من عجائبه، أو قل من تكئاته التي لم يجد سواها- أن أسماء الأعلام البَشَرية تتحَّول باستمرار إلى أسماء أماكن. فتراه لا يذكر اسم إنسان إلَّا حاول البحث له عن اسم مكان. لكأنه يرى هذا دليلًا يقوِّي مزاعمه. لا، بل هو يحاول أن يجد لكل كلمة توراتيَّة- من اسمٍ أو وصفٍ أو سواهما- معادلًا مكانيًّا، مفتِّشًا في (المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة) عن مبتغاه من الأسماء، فإنْ لم يجد تطابقًا، ففي بعض الأحرف الكفاية. من ذلك، على سبيل التمثيل:
- (عمران): هناك قريتان في (الطائف) باسم: (آل عَمْرين)!
- (موسى): هناك (قرية آل موسى)، [كذا!] (12)، على الطريق بين (الطائف) و(أبها)!
- (هارون): هناك قرية اسمها: (هَوران)، بتهامة (زهران).
- (مريم): هناك قرية (آل مريم)، بتهامة زهران أيضًا.
ثم امضِ، لا تسأل بعد هذا مَن آل عَمْرين، وآل موسى، وآل مريم؟ فعَمْران وموسى ومريم هؤلاء هم: عمران و موسى ومريم قطعًا، وعلى مرّ التاريخ، وليسوا أسماء أشخاص آخَرين أصبحت تُكنَّى بأسمائهم عوائل، فعشائر، نشأت خلال القرون الأخيرة من التاريخ الإسلامي، وسُمّيت بهم قُراهم! كلّا، هذا ليس لدى (الصليبي) محلّ سؤال، أو توقّف، أو نقاش، فضلًا عن أن يحمله على البحث التاريخي والتحقيق في تاريخ الأسماء! يكفي تشابه الأحرف بين الأسماء. وللموسويِّين إخوة بالأسماء نفسها في عرض البلاد وطولها، وهو تاريخ سورياليّ لا تنقضي عجائبه! ودائمًا يبدو هؤلاء الأعلام لديه آلهة، بصورةٍ أو بأخرى، كلَّما في الأمر أن بعضهم يغلب بعضًا فيستعبده! ذلك أن الدِّيانة اليهوديَّة ذات أصول وثنيَّة، كما يرى.(13) و(ضاع الهِرّ في وادي اللبن)، كما يقول المثل الشعبي الجنوبي. وهكذا ظلّ (الصليبي) يترحّل بالأسماء من مكانٍ إلى مكان، ويقسِّم الشخصيَّات إذا أعياه التوفيق بين الروايات حولها؛ ليصبح (إبراهيم) إبراهيمَين، أو أكثر، حسب الظروف، وكذاك (موسى).
ولولا ذلك الداء العياء الذي استبدّ بالمؤلِّف، لغلب على الظن، إنْ لم يكن إلى اليقين العِلْمي من سبيل، أن (شكيم) هي (شكيم الشام التوراتيَّة)، و(ممرا) هي (مورة)، و(حبرون) هي (حاران)، وإبراهيم هو إبراهيم. وأن التصحيفات، أو اختلاف الصيغ في الروايات المختلفة، هو- كتشابه الأسماء- لا يُعوَّل عليه عِلْميًّا في إثبات الحقائق التاريخيَّة أو غير التاريخيَّة. وستظلّ (التوراة) حيرة الدارسين؛ لأنها رُكام من الروايات المتعدِّدة للقصص نفسها، بصيغ مختلفة، وأكداس من المخطوطات والترقيعات عبر التاريخ، لن يجمع بينها افتراض صوابها جميعًا، ثم اللجوء إلى توزيع الأماكن شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، وتشقيق شخصيَّة البطل الروائي الواحدة إلى شخصيّات، كما فعل (الصليبي). ومهما يكن من أمر، فإننا لو افترضنا صحَّة ما فعل (الصليبي)، فسنجد الأماكن التي يُشرِّق بها ويُغرِّب موجودة كذلك في أماكن أخرى، ومنها جبال (فَيْفاء)، على سبيل النموذج. ذلك أن (شكيم): في فَيْفاء وحدها اسم لعِدَّة مَواطن، باسم (كشمة)؛ فليختر منها بديلًا لـ(شكيم) التوراة. وكذا سيجد عِدَّة مَواطن باسم (المروة)؛ فليختر منها بديلًا لـ(مورة) أو (ممرا)، إذا شاء. ومثل ذاك بقيَّة الأسماء، لو أردنا مواصلة التتبُّع للأشباه والنظائر.
وقِف بعد هذا على مفاخرته بإنجازه التاريخي، لتنال نصيبًا من فُكاهات المؤرِّخين. إنه ليفتخر في كتابه (خفايا التوراة) بأنه في كتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب) قد أقام الدليل القاطع على أن (بئر سبع) أو (شبعة) التوراتيَّة لم تكن بلدة بئر سبع المعروفة جنوب (فِلسطين)، بصحراء (النَّقَب)؛ فالنَّقَب هي، كما يرى: (ظهران الجَنوب). ووصف (الجَنوب) هاهنا، الذي مُيِّز به هذا المكان حديثًا عن غيره من الظهرانات، كـ(ظهران) المنطقة الشرقيَّة، صفة موجودة، حسب البحَّاثة (الصليبي)، منذ أيّام (إبراهيم)، عليه السلام، وهي (جنب) المذكورة في (التوراة)، وليست (جنب) بـ(النَّقَب) كما توهَّم الواهمون! بل إن (بئر سبع) هي (قرية الشباعة) بداخل (عسير) في أعالي (وادي بيشة)، وهي اليوم جزء من مدينة (خميس اِمْشيط)!
بئر سبع، إذن: حيّ معروف من الأحياء في مدينة خميس اِمْشيط، والنَّقَب: (ظهران الجَنوب)! كيف (أقام الدليل القاطع) على ذلك؟ وَجَدَ أماكن شبيهة أسماؤها بأسماء توراتيَّة ما زالت هناك في أجزاء مختلفة من حوض وادي بيشة، كما قال، على ما بينها من بُعد الشُّقة. ما تلك الأسماء قطعية الثبوت والدلالة؟ قال: (جرار)، وهي اليوم (القرارة)، و(مصرايم)، وهي اليوم (المصرمة)، وكلتاهما في الجوار العام لمدينة (خميس اِمْشيط)، وكذلك (بئر لَحَي رُئي)، وهي واحة اسمها اليوم (رُويَة) بأسفل (وادي بيشة). ويضيف أن (بئر لَحَي رُئي، أو رُويَة بأسفل وادي بيشة) هو المكان الذي وُلِد عنده (إسماعيل)، لا عند بئر (زَمْزَم)، التي في (مَكَّة)، حسب الرواية الإسلاميَّة المتواترة!(14) فيا لها من أدلَّة قاطعة حقًّا، تزيد الطِّين بلَّة! وسنرى في الحلقة التالية أن أدلته لا تدلّ على شيء.
** ** **
(1) انظر: (1997)، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 239- 243.
(2) انظر: (2006)، (بيروت: دار الساقي) 104. (3) انظر: الصليبي، التوراة جاءت من جزيرة العرب، 240 مثلًا.
(4)، (5) انظر: م.ن. (6) انظر: م.ن، 105. (7) انظر: م.ن، 198- 000.
(8) ومن أبرز هؤلاء عالم الآثار (إسرائيل فرانكشتاين Israel Finkelstein).
(9) شاهد في هذا مثلًا الحوار القيِّم الذي أُجري مع الباحث التاريخي والميثولوجي السوري (فراس السواح) على قناة (الميادين):
https://www.youtube.com/watch?v=eYQ4JltXlyw
(10) انظر: الصليبي، التوراة جاءت من جزيرة العرب، 217- 000. (11) انظر: م.ن، 229.
(12) هي قرية (الموسى)، من قرى قبيلة (ب ني حسن بسَراة زهران). (انظر: الزهراني، علي بن صالح السلوك، (1981)، المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة: بلاد غامد وزهران، (الرياض: دار اليمامة)، 234).
(13) انظر: الصليبي، خفايا التوراة، 253. (14) انظر: م.ن، 115- 117.
- الرياض
p.alfaify@gmail.com *** http://khayma.com/faify