كارلوس يجمع التضاد اللوني بمصالحة بصرية تستحضر الوجدان وتعيد المواقف
كارلوس دياث فنان ملأ فضاء إسبانيا بالألوان، وجذب المقتنين، وأضفى جمالاً على جمال الكثير من المكاتب والمؤسسات الرسمية والخاصة في العاصمة الإسبانية وخارجها.
لم يكتفِ بهذا القدر من الإعجاب أو المساحة المحدودة في الغرف أو الممرات فجعل من كل جزء في ساحات إسبانيا موقعاً لإبداعه.
جاء للرياض عام 2007م، وقدم معرضاً في مركز الملك عبد العزيز التاريخي، جمع فيه بعضاً من ملامح إبداعه، وكشف لمن سمع عنه أو من يريد أن يتلقى من تجربته ما يحقق له التميز، فأقام ورشة كانت هي مربط فرسنا اليوم.
الورشة التي أقامها في حضن معرضه بصالة المعارض المستضافة في مركز الملك عبد العزيز الرياض كانت بمنزلة منهل إبداعي لمن لديه تجربة سابقة، أو من يتلمس سبل التعبير اللوني.
داعب الفنان كارلوس فرشاته، واستنطق ألوانه، وبعثرها بضربات معلم؛ لتنتهي إلى عمل لا يمكن تجاهل ما يحمله من مضامين جمالية ومحاكاة للواقع كما يفهم الفنان واقعه المرئي.
يشير الفنان كارلوس إلى اهتمامه بالفن منذ أن كان طفلاً.. أبصر النور في سانتا كروث دي تينيريفه بإسبانيا عام 1969م وسط بيئة فنية تحب الفن، كان لها تأثير في تنمية موهبته.. إذ يوجد في عائلته أربعة أجيال من الفنانين، إلا أنه لم يتأثر بأسلوب أي منهم؛ فلديه بصمته وأسلوبه الخاص الذي يميزه عن غيره من الفنانين الإسبان. وهذا لم يأتِ بسهولة بل هو نتاج سنوات طويلة من تجربته الفنية.
رسائل بألوان متصالحة رغم تضادها
جعل من اللون رسائل بصرية؛ إذ اشتهر الفنان كارلوس بألوانه الموصوفة بالمخملية الجاذبة بتجاورها وقدرة الفنان على إيجاد مصالحة بين المتناقضات والمتضادات، بين السخونة والبرودة، وبين الحدة والهدوء بالصالون الصارخ واللون ذي الإحساس بالشفافية. يأخذك إلى مشهد أحياناً سينمائي وآخر مسرحي درامي، وأحياناً تراجيدي.. يختزل مساحات التقارب بين الوحدة والجماعية التواصلية التي تتحكم فيه العين والعقل.
يسعى الفنان إلى وضع نقطة ارتكاز في لوحاته، من خلال بقعة ضوء أو شدو يقلل من اندفاع صراحة اللون بتماهٍ يدفعنا إلى قراءة نصه الفني من خلال معرفة أبعاد التجربة، وليس بما أنتجته المصادفة كما يعتقدها البعض؛ ففي لوحات الفنان، إيحاءات توحي للمشاهد بعناصر تبرز أحياناً ضبابية يختزل أو يستعير فيها الواقع المرئي بتحويله إلى إحساس يقترب بنا إلى الخيال والتخيل مانحاً المشاهد تصوير ما يراه كمادة خام إلى واقع خاص؛ ليشكله كما يرغب. فالعناصر في اللوحة تجعلنا أمام إحساس مطرد، يسعى إلى جمع متفرقات تلك العناصر التي تظهر وكأنها تعيش في زمن البصر المؤقت سريع الزوال.
ثم نجدها تفرض ذاتها في البصيرة لتصل إلى العقل الباطني، تدفعنا لاستحضار قدراتنا للدخول في امتحان لفك رموزها، والبحث عبر قاموس الألوان.. ما يجعل عزفه اللوني علامة مميزة للفنان. ألوان لها مدلولاته مهما خرجت عن الأساليب المتعارف عليها. فلكل لون صوت.. ولكل بقعة ضوء صدى.. مهما حضرت من الأنبوب صريحة أو بما عولجت به من مزج وتحليل على حامل الألوان نرى اللون الأحمر لون الدماء يتجاور مع لون الماء ولون الصفاء الأبيض.. والأزرق لون البحر أو النهر.. ويحضر الأخضر ببهائه لون الأمل والأصفر لون الغيرة.. ألوان تتكيف بخصوصيتها مع المناخ التعبيري الذي يختاره لها الفنان في حالات كثيرة، وفي حالات أخرى يجد الفنان نفسه مُفاجَأ بهذا الحضور البهي..
عوالم تكشف أسرار اللون
اللوحات تضج وتزدحم في فضاء اللوحات.. البعض أكثر إشراقاً، والأخرى يغلب عليها الألوان الرمادية أو القاتمة. سيمفونية تستولي على كل المساحات، أصبح فيها اللون الحاكم بأمره في اللوحة، يجمع ويوحد شتاته إلى أبعد مدى من «النضج» في ملامحها.
نراها في غاية الروعة عندما نتجرد من مختزلنا البصري التجاري الذي اعتدنا عليه من الأعمال التسجيلية المباشرة بعناصرها، شخوصاً كانت أو ما يحيط بنا من جمال الطبيعة؛ إذ نجد أنفسنا أمام فرقة أوبرالية، يتحد فيها السلم الموسيقي، عزفها يصل بنا إلى حدّ الانصهار.
يعتمد الفنان كارلوس على أهمية اللون في جانب التسويق مستبقاً الأمكنة التي يتوقع عرضها فيها، وخصوصاً عند المقتني لعلمه بالتأثيرات النفسية للألوان وأبعاد استعمالها؛ ليتمكن من التحكم في المكان المراد عرض اللوحة به.
فنجد أن الألوان المفعمة بالحيوية تصلح لغرف الجلوس لكثرة مرتاديها، كما أن الألوان الهادئة تساعد على الراحة والاسترخاء في غرف النوم.
يقوم الفنان كارلوس بتوزيع الموضوع الذي يرغب في رسمه ليشكل خطاباً يحمل سبلاً عدة للوصول إلى أعماق وجدان المشاهد، ويقوم على توزيع اللون في مجموعة من اللوحات بطريقة عمودية، وفي مجموعة أخرى باتجاه أفقي، بدءاً باللون الأصفر بما يحمله من إشراقة، وانتهاء بالأبيض حيث الانفراج وهدوء النفس، مروراً ببقية الألوان لتتلاقى المشاعر والأحاسيس عن مشاعره وأحاسيسه، وتبقى تأويلات وتفسيرات المتلقي الآخر متاحة في قراءة هذا الخطاب الفني الجمالي، دون أن تصادرها هذه الدراسة منه.
يقول عنه السفير الإسباني منويل الابارت: «كارلوس دياث سفير حقيقي لإسبانيا، ومن خلال عمله في جزر الباليار الساحرة في مايوركا (حيث ولد ميرو) أنتج أعمالاً مبهرة، ملؤها اللون والنور والأحاسيس، التي يجمع بينها من خلال ممارسة التوازن والتوافق والنضوج. نجاحه يقاس بشكل ظاهر من خلال تنامي عدد من الأفراد جامعي اللوحات الفنية والمتاحف التي قامت بشراء لوحاته. وكعادة إسبانيا أرض الفن التي خلفت أسماء كبيرة، مثل بيلاثكت وغويا والغريكو، بوصفهم الفنانين القدامى، وبيكاسو وميرو ودالي بوصفهم الفنانين المعاصرين، ما هم إلا عينة من الفنانين الإسبان الذين أثروا في حركة الفن في العالم».
تقليد لم يصب الهدف
بعد إقامة الفنان كارلوس قبل ثمانية أعوام برزت للساحة، وخصوصاً في الرياض، الكثير من التجارب المشابهة أو المطابقة لتجربته، لكنها لم تكن بالمستوى الذي يصل بنا إلى الاقتناع؛ إذ لم يحصل هؤلاء الفنانون من خلال ذلك التأثر إلا بالقشور وبالفهم السطحي لتجربة الفنان كارلوس الطويلة، ودفعهم للتلاعب بالألوان كيفما تشاء، أو كيفما تتكون على اللوحة بتلقائية لا تعتمد على خبرة طويلة كما مر بها الفنان الإسباني، منها ما جاء نقلاً عن بعض لوحاته، وما زالت مستمرةً نراها بين حين وآخر في بعض المعارض.
ومن المؤسف أن يواصل هؤلاء المبتدئون هذا التعالق بتلك التجربة دون أن يضيفوا جديداً أو يبحثوا عن مخرج منها لتحقيق ذاتهم الفنية.
** ** **
بطاقة
تميز الفنان كارلوس عبر حياته الفنية بقدرته على تجسيم اللون في أعماله التشكيلية والمجازية، واقتنى له الكثير من الشخصيات، منهم:
- صاحبة الجلالة ملكة إسبانيا.
- رئيس دولة باناما السيد غيير مو اندارا.
- مقر اليونسكو في باريس. ثيربيرا.
- المتحف الأولمبي في مدينة الأوسان في سويسرا.
- أمير وأميرة ديمتري توكوتوا.
- دوقة البا، السيدة كابيتانا فيتس - جايمس.
- عدد من الوزراء والسفراء ورجال الأعمال والسياسيين.
- monif.art@msn.com