كان لي شرف حضور هذه المناسبة الاحتفالية بدعوة كريمة من الجامعة، التي غمرتني بلطفها وكرمها وحفاوتها باستضافتها لي على مدى ثلاثة أيام، من خلال مسؤوليها الذين أعجز أن أقدم لهم ما يليق من كلمات الشكر والعرفان، بدءاً بمديرها المكلف الأستاذ الدكتور محمد بن علي ربيع، ووكيلها الأديب والصديق حسن بن حجاب الحازمي، الذي لم يدع لي مجالاً للراحة منذ وصولي حتى مغادرتي؛ فهو الحفي الوفي، ومَنْ شابه أباه فما ظلم، كما قيل في المثل، فقد استفتحنا بزيارة والده الشيخ والأديب الأريب حجاب بن يحيى الحازمي رئيس النادي الأدبي بجازان الأسبق عضو مجلس أمناء مركز حمد الجاسر الثقافي حالياً، بزيارته بمدينة (ضمد)، التي تبعد عن مدينة جيزان الأم بما يقارب 50 كم، الذي سبق أن اتصل ملحاً على قبول دعوته، وقد فاجأني بحضور عدد من أدباء المنطقة، منهم من عرفت، ومنهم من سبق لي معرفته، مثل الشعراء: إبراهيم زولي ومحمد حبيبي وعبدالرحمن موكلي، وغيرهم. وكانت سهرة ممتعة، اختُتمت بجولة في مكتبته العامرة بمقتنياتها الفريدة ومخطوطاتها النادرة. وقد أهداني مشكوراً آخر مؤلفاته وصورة من مخطوطة (كتاب خلاصة السلاف في أخبار صبيا والمخلاف) لشرف الدين أحمد بن محمد النمازي الخزرجي الأنصاري، قبل العهد السعودي الأول، واعتبرتها هدية منه لمكتبة الملك فهد الوطنية التي ألقيتُ عنها في جامعة جازان محاضرة تخص دورها في توثيق التأريخ الشفهي للمملكة.
لمستُ اهتمام جامعة جازان بالتنمية المحلية، من خلال خدمة المجتمع، وإقامة الدورات والندوات والمهرجانات والمشاركة الثقافية في المهرجانات العالمية، من خلال عرض المسرحيات والمعارض التشكيلية والشعر وغيرها، وحصول فرقها على مراكز متقدمة، بل حصولها على المركز الأول في مهرجانات أُقيمت في أمريكا وأوروبا والصين وغيرها. ولا أنسى مراكز الإبداع والتشجيع على الاختراع، وكان أحدها اختراع مضاد حيوي، سُمِّي بـ(زينوماجكسين)، الذي تناقلت أخباره المجلات العالمية المتخصصة، منها مجلة (أخبار الأدوية) البريطانية مشيدة بأهمية هذا الإنجاز بوصفه كشفاً علمياً حققته المملكة.
وعن اهتمامها بالرواد الراحلين والأحياء فقد أقامت ندوات دعت لها كثيراً من المتخصصين لدراسة إبداعهم وإنتاجهم الفكري والأدبي، ومنها ما تحقق وما يجري تحقيقه. فقد جرى الاحتفاء بالأديبَيْن إبراهيم مفتاح وحجاب الحازمي في العامين الماضيين، والتحضير جار للاحتفاء بآخرين.
لقد كنتُ أفكر وأنا أتجول بحرم الجامعة وأشاهد ما حققته خلال هذه الفترة الوجيزة من عمرها مصدقاً ما قاله الكاتب صالح الشيحي في مقاله بجريدة الوطن يوم الثلاثاء 23 - 12 عن أن جامعة جازان تضاهي كبريات جامعات العالم، الذي كنت أعتقد أنه يبالغ أو يجامل، ولكن ما رأيته أزال العجب. كل ما قُلته عن الجامعة لا يوفيها حقها؛ فهو مجرد لمحات مختصرة؛ فمعذرة لها ولمنسوبيها عن أي تقصير.
فاجأني الصديق الدكتور حسن حجاب بعد وصولي لمطار جازان بأن الغد سيكون حافلاً بالنشاط، سيبدأ بالجامعة ولأكثر من ست ساعات، وفي المساء لقاء بأدباء المنطقة بالنادي الأدبي. حاولت أن أعتذر عن لقاء النادي لعدم استعدادي، لكنه أصر وطمأنني بأنه هو من سيدير اللقاء. وكانت الزيارة والجولة في مرافق النادي، وعلمت أن نادي جازان الأدبي هو أول ناد بالمملكة يملك مقراً خاصاً به. ثم اللقاء بمجموعة من أدباء المنطقة برئاسة الأستاذ حسن الصلهبي، وكان عنوان اللقاء: (تجربتي مع الكتابة)، وكنت مع الأسئلة والمداخلات ومفاجأة اللقاء مصحوباً بالحفاوة، واللطف الذي يتمتع به ابن جازان أنساني كثيراً مما كنت أنوي قوله، وإن كان الحديث عن موضوع معيّن يتفرع إلى مواضيع أخرى تنسيني العودة للموضوع الأساس. وكان أحد الأسئلة عن اهتمامي بالرواد والكتابة عنهم، فقلت: إن الكتابة عن بعضهم قد تُسبّب حرجاً من بعض أقاربهم؛ إذ يعتقدون أنني سأكتب سيرة ذاتية كما في مخيلتهم، أو قد ينتقدون أي إشارة في نظرهم ليست مناسبة. وضربت مثلاً بكتابي عبدالرحمن منيف وحمود البدر، وقلت إنني قررت عدم الكتابة عن أي شخص ما زال على قيد الحياة، وأن هناك من طلب وألحّ، ولكني اعتذرت. وقلت إن بداية حبي للكتاب بدأت منذ صغري، منذ عام 1374هـ، بمكتبات باب السلام بمكة المكرمة، عندما رأيت كتيبات على أغلفتها رسم لرجل يلبس الإحرام، وهو (الإسلام والحج) لطبيب أسنان مصري، اسمه عباس كرارة. فلفت نظري، فوفرت من مصروفي ربع ريال، واشتريته؛ ليكون أول كتاب في حياتي. وكنت سأقول كثيراً، وأستشهد بما قاله مكسيم جوركي من أن الإنسان يعيش حتى المئة، ولكن الكتاب يبقى مدة طويلة، وأن الإنسان بلا هدف أو مشروع في هذه الحياة هو إنسان هامشي، مثله مثل الحيوان، يأكل ويشرب وينام، وينتهي بدون أن يترك أثراً يُذكر به بعد رحيله.
صباح الخميس هيأت الجامعة لي فرصة زيارة جبل فيفا والجولة في معالمه، بصحبة الأخوين الكريمين نايف كريري ومحمد البطاط، وكان بانتظارنا ابن فيفا فرحان الحكمي أحد مسؤولي التعليم، الذي سهل لنا معرفة كثير عن تاريخ الجبل والحياة الاجتماعية وغيرها. انتهت زيارة الجبل بالمرور بمحافظة (ظبية)، وتلبية لدعوة كريمة من الشاعر عبدالرحمن موكلي، الذي عرفته قبل عشر سنوات في مجلس الدكتور عبدالعزيز المقالح بصنعاء، بإقامة صالونه الثقافي المعتاد، الذي أقامه بعد ظهر اليوم بدلاً من مسائه بمصادفة إقامة مهرجان لليوم الوطني في المساء بجمعية الثقافة والفنون الذي هو رئيسها، والذي جمعني برواد خميسيته من مختلف أنحاء المنطقة بحضور محافظ ظبية الأستاذ علي الحازمي. وكان الحديث الذي أداره الأستاذان حسن حجاب وإبراهيم زولي يركز على علاقتي ببعض الأدباء، وبالذات عبدالكريم الجهيمان وعبدالعزيز مشري وعبدالرحمن منيف، وعن برنامج التاريخ الشفهي بمكتبة الملك فهد الوطنية.
وفي المساء كان اللقاء المفاجأة مع الأديب الكبير الدكتور عبدالرحمن الرفاعي، فرغم إعاقته الجسمية إلا أنه يعتبر أهم شخصية أدبية تولت تدوين الأدب الشعبي، وألّف أكثر من 50 كتاباً، كلها أثارت الجدل، وقد طُبع أغلبها في مصر، وكان يشرف على مطبوعات نادي جازان الأدبي، وبالذات دورياته (مرافئ) و(أصوات). وله اهتمام باللغة العربية والتربية والتاريخ، وقد نال الدكتوراه الفخرية من الجامعة العربية عام 2005م، وجائزة الملك سلمان لتاريخ الجزيرة العربية عام 2007م، وجائزة من جامعة 6 أكتوبر بجمهورية مصر العربية لجهوده، وسميت جائزة باسمه (جائزة الرفاعي للترجمة)، واختير من ضمن أفضل عشرة علماء في اللغة العربية وآدابها على مستوى العالمين العربي والإسلامي، وهو عضو بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضو بجمعية تراث الشيخ ابن عربي بجامعة أكسفورد بباريس ودمشق، وعضو بمجلس إدارة جمعية لسان العرب بجامعة الدول العربية منذ سنة 2005م، وعضو بجمعية حماة اللغة العربية بالقاهرة، وفوق هذا وذاك هو يشرف ويشارك في الإشراف وتحكيم الرسائل العلمية، وغيرها.. ولعلي أستطيع أن أكتب عنه فيما بعد بما يوفيه حقه.
أختتم ما سبق، وأشعر بأنني لم أذكر إلا الجزء القليل مما يستحق؛ فهذه المعلومات المبتسرة التي ذكرتها عن جازان وعن جامعتها لا تعدو أن تكون ما يقع على أطراف الثمام. معذرة إلى جازان أرضاً وإنساناً.
- الرياض