هل الأدب عموماً والشعر خصوصاً له وظيفة غير الوظيفة الجمالية، أم أن مقولة الفن للفن وللمتعة هي الصواب؟ إننا أميل إلى أن الفن للفن فحسب أما ما يحدث له من وظائف أخرى فهي وظائف قد تأتي عرضاً، وقد تكون باعثاً أو عادماً من عوادم العملية الفنية، ولكن الأدب في بعض المجتمعات قد يتحول إلى أداة كأي أداة أخرى يقوم باستعمالها في قضاء بعض حوائجه، وهنا قد يخفت الفن ويخبو بريقه...
لن أتحدث عن التوظيف الإيديولوجي للأدب فهو واضح وأثره في القيمة الفنية معروفة وقد استهلكتها الكثير من الدراسات..
ولكنني سأتحدث عن وظيفتين غريبتين للمجاز في النثر أو الشعر قد تشبهان ما يذكر عن التداوي بالموسيقي مثلاً، بل قد تفوقان الموسيقى تأثيراً..
فمن الغريب أن المجاز قد يستعمل للإلحاق الأذى الجسدي وقد يؤدي إلى موت الضحية أو إلى مرضها المزمن، كما أنه قد يستعمل للتخدير الموضعي بحيث يمكن أن تجرى عملية جراحية دون أن يحس المريض ودون أن يتألم..
فمن تتبع حالات الإصابة بالعين والقصص المروية عنها والمشاهد والحكايات التي عرفتها بنفسي، ومن تحليل تلك الحوادث التي أدت إلى مرض أو موت الضحية اتضح أن عملية الإصابة بالعين تتم عن طريق توجيه وتركيز التفكير في المعين أو المعيون أي الذي وقعت عليه العين وقد خصت العين لأنهم يدعون خروج التأثير من العين ناحية المعين وأكثر الحكايات تقرن حدوث العين حال الرؤية وبعضها تدل على أن الإصابة بالعين قد تكون أحياناً عن طريق السماع وعلى كل فإن التركيز على الشخص الذي تقع عليه العين لا يكتمل إلا بالمرحلة الثانية التي تتحقق في أغلب قصص العين في التراث العربي القديم وفي التراث الشعبي وهو اقتران التركيز بإطلاق عبارة مجازية (تشبيه أو استعارة) يكون التمثيل اللفظي للتركيز ومن ثم تصيب العين أي أن الإصابة تتم عبر وسيط لفظي يكثف أو يسرع عملية الإصابة أو يجعلها تتحقق في سلسلة تفاعلات نفسية تكون رصاصتها القاضية إطلاق العبارة المجازية (التشبيه أو الاستعارة)، ويمكن متابعة كل حكايات العين التي أدى المجاز فيها دورا رئيساً في إماتة الضحية أو مرضها، ومن خلال تتبع ما يحدث للمريض المصاب بالعين اتضح لي أن الغالبية التي تؤدي إلى الموت أو المرض الشديد هي الحالات التي كان مجازها أكثر جمالا وأكثر قوة، وعادة يتجه المجاز إلى المبالغة ليس بهدف إدراك الشيء كما هو عليه بل بهدف تضخيمه وتركيز التفكير في إزالة هذا العنصر المتعلق بالتضخيم فيزول من خلال عملية تركيز لم يستطع العلم تفسيرها حتى الآن علميا..، ومن أمثلة تلك الألفاظ في الحديث الصحيح (والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة)، ونجد في كتاب الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية في الجزء الحادي عشر أكثر من حكاية عن حدوث العين يقترن فيها الفعل بالتركيبة المجازية في جميع الحكايات منها على سبيل المثال (ما هذه النياق التي كأنها أحباش الشريف، إن حمارك قد طار بك وترك ذيله عندنا، كأنها بنات العيد لا تدري ما تختار منهن، أخذت الدلة وتركت الفناجيل، أراك بدأت بالتحيات أي التشهد أرى قطاً أسود أصفر العينين فأخاف، مثل حوض القاعة أول الماء لك وآخره لك،...إلخ) والسؤال هل التركيبة المجازية هي معبر الإصابة بالعين أم لا لا يمكن أن ننفي أو نثبت بسهولة في هذه المسألة، ولكنه الجزء الملموس من العملية برمتها والذي يمكن جزئياً تحليله وتصنيف أنواع المجاز فيه وطريقة استعماله في الين، ولا ننسى التنغيم الشفهي المصاحب للتركيبة المجازية وطريقة خروج الصوت وطريقة وضع جسم العائن، وحبذا لو أجريت اختبارات علمية في هذا الجانب لدراسة هذا الأمر بصورة أقرب إلى العلم وأبعد عن الخرافة وعن المنطقة المعتمة الضبابية في مثل هذه الأمور...
أما الحالة الثانية التي يستعمل فيها المجاز الشعري مخدرا موضعياً فهي حالات الختان في بعض أجزاء المنطقة الجنوبية الغربية من المملكة قديما حيث يتم الختان في الغالب بعد أن يصل الشاب إلى البلوغ أو بعد البلوغ بقليل، ويتم تحفيظه نوعا من الشعر يدعى القاف فيه افتخار بنفسه ونسبه وقبيلته، وتجرى العملية الختانية بطريقة احتفالية كطقس عبور، وفي أثناء العملية ينظر المختون إلى السماء وهو يردد الشعر بصوت مرتفع، وتتم العملية في بعض النواحي بسلخ جلد كبير يمتد إلى الفخذين بل كانت تقوم بعض القبائل بعمل أربع فتحات في البطن يضع فيها الخاتن أصابعه الأربعة لشد الجلد ثم يسلخ منطقة كبيرة دون أن يتألم المختون الذي يردد الشعر المجازي الذي يؤدي هنا دور البنج الموضعي، ويمنع على المختون أن يظهر أي تأوه أو ألم خلال إجراء العملية لأن ذلك يظل عارا لا تمحوه الأيام، والحقيقة أنه لا يحس بالألم إلا بعد انتهاء العلمية لأنه يكون منغمساً بطريقة تشبه الغياب الصوفي أو الحالة الهستيرية في القصيدة الشعرية الحافلة بالمجاز وبالتنغيم الشفهي والتي ظل يحفظها لأيام...
وهنا نصل إلى أن المجاز قد يؤدي إلى التأثير في الجسد البشري تأثيراً عضوياً كما تدل عليها بعض الحالات، بيد أن أثره الأعمق حين يجعل الروح ترقص وترفرف من نشوة الجمال.
د. جمعان بن عبدالكريم - الباحة