سورة يوسف أنموذجًا .. قراءة تدبرية
إن للا بتلاء في اللغة (1) معانيَ تشفُّ عمّا تحتها وتلتقي فيمَا بينها، فظاهرها واضح وباطنها لائح وأولها يجيء امتدادا لا يرتد لآخرها، ولعل أقربها معنى لذهن القارئ العادي في ظاهر الأمور هي الاختبار، وأعمقها للقارئ النموذجي البصير في مآلات الأمور وغورها هي الإنعام والمنّ.
إن الابتلاء إنعام لا غم، وإعطاء لا منع، ومصاب خير لا مصائب شر، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) (الصافات:106)، ويجيء الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان فهو اختبار بالخير والشر للكافر والمسلم، للجاهل والعالم قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الانبياء 35)، وقوله: (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ) (الممتحنة:10)، والابتلاء في أصله فتنة ليعلم الله من يصبر ومن يشكر، ومن يحسد ومن يحمد، ومن يردع ومن يجزع، قال تعالى: ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)، (العنكبوت:2)، (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)، ( الفرقان:20).
إن الابتلاء هو سنة الله في خلقه، وقدره الماضي عليهم كلهم بلا استثناء (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر:43)، وللابتلاء في القرآن صورٌ شتى بالتفاوت تترى بين سخط ورضا، وعلى قدر الإيمان يكون الابتلاء والصبر الجميل الذي لا تنداح له شكوى، ولا تسمع له نجوى، عدا التسليم بالقضاء والقدر خيره وشره، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل (كما في الحديث).
إن الابتلاء منهج رباني لتربية النفس البشرية ولتهذيبها لصلاح أمرها في الأولى والأخرى، فالابتلاء فقه يجب أن يُعلم ويُعمم فينا منذ النشأة الأولى والخطوة العظمى حتى منتهى العمر، ذلك أن آيات الابتلاء في القرآن تدر حكمًا وعبرًا وآدبا تبدأ ولا تنتهي..وتصل ولا تصل.. لمن فتش بتأمل وأجال النظر بتدبر.
فسبحان الله القائل في محكم تنزيله: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، (الأنبياء 23)، والابتلاء لا يعني الظلم فالله لا يظلم أحدا مثقال ذرة (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف:49)، ويقينًا أن الله لا يبتلي العبد إلا ليصرف عنه سوءا وليمحصه تمحيصًا، وليحط من أوزاره، ويقربه إليه زُلفى، فالله إذا أحب عبدًا ابتلاه، والابتلاء إحدى رحمات الله لعباده، وخيراته الخفية عليهم، وهذا الفَهم لا يتأتى إلا لمن رام فقهًا لمعانيه ووعيًا لآثاره.
والابتلاء هو نعمة لا نقمة، وليس حكرًا على أحد دون أحد.. بل هو عام لكل أحد لا خاص لفئام دون فئام.. فهو قائمٌ بدءًا بأبي البشر.. وسائر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وآثرت أن أقتصر على صور رحمة الابتلاء في القرآن متخذة من سورة يوسف - عليه الصلاة والسلام- أنموذجًا لما فيها من ظلال وضلال.. وإيسار وإعسار.. وأنوار وظلمات، وماء ودماء.. وأفراح وأتراح، وشك ويقين، ومحن ومنح، ومضايق ومخارج، وإذلال وإعزاز، ومرارة وحلاوة، وأعجب ممن يقرأها فيحزن، بل كيف لا يجذل العبد بالابتلاء بلا جدل حين يقرؤها قراءة تربتُ على وجعه وتضمد أشجانه وأوجاعه ولدغاته من الأقرب فالأبعد..!
وتجيء أهمية هذه المقالة و لارتباط تلك السورة بأحداثها ووقائعها بالواقع المعيش في فقه تعاملاتنا فيما بيننا، سواء كانت دينية أو تربوية أواجتماعية أونفسية، فهي بجانب ما سبق تحيط بكل ما لحق وما مضى وخفى، وظهر وبطن من أسرارها التي تتداعى كلما نبشنا سرها ومستودعها.
.. وللقراء التدبرية بقية تمتد.. وأسرار تتكاثر ولا تُعد..!
** ** **
(1) انظر:لسان العرب، لابن منظور، مادة (بلا).
تهاني العيدي - الرياض