تمكَّن الفن منذ القِدَم من توسيع دائرة أبجدياته، وتخطى الاهتمام بالجمال ليعنى أيضاً بالقبح بنوعيه، التقليدي والمركَّب؛ وهو ما دفع للسؤال: هل يمكن أن يكون الفن قبيحاً، وأن يمتلك في الوقت ذاته قيمة جمالية؟ وهو السؤال الذي طرحه صاحب كتاب «النقد الفني»، جيروم ستولينتز، وخلص إلى عدم وجود تصادم بين الفن والقبح.
فالجمال المادي ببساطة في عين الناظر، ومن خصائص الإبداع القدرة على تحويل ما هو بشع إلى جميل. ويفترض بالعمل الفني أن يعالج المحتوى القبيح كما يعالج الجميل بفنية خالصة للتخفيف من وطأته تارة، وبيان مدى شناعته أخرى.
وهو ما نجحت فيه عبقرية فيكتور هيجو الإبداعية ككاتب؛ لتجعلنا ننجذب لبطله (كواز يمودو) في رواية «أحدب نوتردام»، رغم عاهته الجسدية، وشكله غير المريح، إلا أن هيجو تمكَّن من كشف وإبراز باطنه الجميل، وشعوره المرهف عبر متوالية من الأحداث والمواقف. ونجح بذلك في صرف ذهن المتلقي عن قالب الأحدب الطيني إلى قلبه ومواقفه. وفي مشروع كتابي مماثل، تم فيه معالجة القبح أيضاً، لكن المعنوي هذه المرة، بشكل آسر وجميل، حيث اشتهر الشاعر الفرنسي شارل بودلير بذلك من خلال ديوانه الأول ذائع الصيت «أزهار الشر»، الذي حاول فيه استيعاب العديد من تناقضات الحياة اليومية في مدينة كبيرة مثل باريس.
ورغم أن أبا منصور الأزهري يعرِّف القبح بأنه ضد الحسن ونقيضه، يأتي مفهوم (القبح الاستطيقي) ليؤكد أن كل ما هو قبيح قابل لأن يكون جميلاً عبر المعالجة الفنية التي تغوص فيه، وتفتح طاقات لتأمله. و(الاستطيقا) مصطلح فلسفي، يعني الإدراك والإحساس بالجمال. ويؤشر إليه جون غريغور بقوله: «من المهم إدراك أن قبحنا، مهما كان، يخفي بعض الجمال».
وقد عرف الإبداع مبكراً على يد الإيطاليين، فن تجسيد المشوه أو ما اصطلح عليه بـ»الجروتسك»، الذي وُجدت آثاره على جدران الكهوف والمغارات، واتسم بالعجائبية في تصويره حيوانات ذات أشكال نباتية، ووجوه آدمية مصورة بشكل لا يتفق مع الواقع. فيما توسع المعنى بعد ذلك، واستُخدمت الكلمة في علم الجمال كصفة للأسلوب النشاز المسرف في الخيال وغير المنتظم، وكل ما يتصف بالغرائبية، أي كل ما يضحك - بالنسبة للمسرح هنا - من خلال المبالغة والتشويه، ويتناقض مع ما هو سام ورفيع. وبذلك دخل الجروتسك ضمن التصنيفات الجمالية، وحمل بُعداً فلسفياً؛ فهو يناقض الثقافة التقليدية، وأصبح يعبِّر عن التلازم المقصود للأشياء المتعاكسة أو المتناقضة بحسب كتاب (الجروتسك في العروض المسرحية) لإقبال نعيم.
ويركز مشروع هوجو على القبح الفيزيقي المادي المتعلق بالجسد الإنساني، موغلاً بنا عميقاً في رحلة ماتعة في الجانب الميتافيزيقي الذي ينتمي للحياة الباطنية (الجوهر)، للأحدب. فيما تجرأ بودلير للذهاب بنا لأبعد من ذلك عبر ديوانه واضعاً عدسة مكبرة على مواطن العطب في النفس البشرية الملوثة بالخطايا، فيقول: وَالشَّيْطَانُ الَّذِي يُمْسِكُ بِالْخُيُوطِ الَّتِي تُحَرِّكُنَا!/ فَنَجِدُ الْفِتْنَة فِي الأشياء الْمَقِيتَة/ وَنَنْحَدِرُ كُلَّ يَوْمٍ خُطْوَة إلى الْجَحِيم/ بِلاَ هَلَعٍ، عَبْرَ الظُّلُمَاتِ الآسِنَة.
وهي أبيات مضمخة بالحياة، خير مصداق لها في الوقت الراهن متبنو وحاملو الفكر الإرهابي - حمى الله وطننا الغالي منهم - الذين يسلمون قيادهم تماماً للشيطان، يحركهم كيفما شاء، وينحدرون يوماً بعد آخر بالواقع الإنساني للجحيم، قتلاً للنفوس البريئة وتدميراً، إلى جانب ما بات يعانيه الإنسان العربي حالياً من واقعية بشعة في خضم حروب واعتداءات، أنهكت قلوب مدن عربية عريقة، كانت يوماً ما تقطر حضارة وجمالاً، والآن موت وهجرات جماعية وغرق، تجعل من مصطلح مثل «الجروتسك»، الذي ارتبط طويلاً بالقدرة الفنية على معالجة ونقل كل ما هو مقزز وقبيح ومخيف ومنفر أو شاذ عبر عالم الفنون، يبدو أنه ما عاد كافياً لتوصيف هذه الواقعية الضاغطة التي أفرزت أبشع ما في النفس البشرية، حتى بدا الإبداع عاجزاً عن استيعاب كميات الشر المتفاقمة التي غدت تنزها تقرحات سرطان الإرهاب والحروب، حتى يتسنى في حال استيعابها والتعبير عنها تعريتها أكثر، والحد قليلاً من وطأتها القاتلة.
شمس علي - الدمام