مع اقتراب معرضي الكتاب في جدة والرياض تغمر السعادة قلوب الكثيرين، لا بسبب التقاء ناشرين من كل الجهات تحت مظلة واحدة تختصر الجهد والبحث ولكن بسبب «الفسح الكريم» الذي تتمتع به مقصات الرقباء في إدارة المطبوعات، والتنازل عن كثير من الممنوعات، وغض الطرف عن قوانين «الحجب الاحتياطي» وإغلاق باب «سد الذرائع» الذي نشأ المراقبون في بلاطه، وتتلمذوا على مشائخه بكل تفانٍ وإتقان.
وما تفعله إدارات الرقابة طيلة العام، في ظني، أكبر معوقات النشاط الثقافي في المملكة، وعامل طرد لكثير من الأعمال الفكرية التي تهاجر إلى أحضان ناشرين في الخارج بحثاً عن فضاء أطره الرقباء، وصادروا نوافذه فتأثرت دور النشر الداخلية وحركة الطباعة وعمليات التسويق ومنافذ البيع، وهي مقومات عمليات الصناعة الثقافية التي تتباهى بها بلدان بعيدة، وأخرى مجاورة.. لكن ذلك لم يحرّك غيرة الموظفين البيروقراطيين في الوزارة، ولم تستفد هذه العمليات من وجود مثقفين معروفين في أروقتها، ولهم حضور ثقافي وأدبي.
تأتي المعارض فتتفاخر إدارات الرقابة بفسح آلاف العناوين كانت في قوائم المنع طيلة العام، وتعود إليها بعد المعرض في عملية دعم فريدة للناشرين الخارجيين ليبيعوا منتجاتهم بأعلى الأسعار أمام لهفة القارئ ويقينه بعدم الحصول على ذلك إلا في هذه الفرص النادرة فيدفع أسعاراً مضاعفة لكتب رحلت إلى «خانة التابو» بفعل رقيب قد لا يعي مستوى الأذى الذي لقيه القارئ والساحة الثقافية معاً.
هذه الحدائق المؤقتة والتسامح الطارئ على الوزارة أن تجد لهما حلاً، وعلى الوزير المثقف الذي استبشر كثيرون بتعيينه، كما استبشروا باثنين قبله، أن يراجع آليات الرقابة، ويمضي يوماً بين الرقباء ليرى كيف يتعاملون مع المطبوعات، وعلى أي الأسس والمعايير يستندون وهم يحاصرون نباتات الفكر والعطاء الإبداعي والفني، وهل لظنونهم مسوغات تُحترم؟
تغيّر الزمن، وتغيّرت وسائط نقل المعرفة، وبات شراء الكتب الإلكترونية أسهل كثيراً وأرخص ثمناً، وإدارات رقابة الكتب تعمل وفق تقاليد منتصف القرن الفائت، بكل أسف!. ومن جميل ما يُروى أن هذه الإدارة، قبل ثلاثة عقود، كانت تستعين بمثقفين ومبدعين من خارجها للحكم على الكتب التي لا يملكون حكماً حيالها، وهي نظرة متقدمة قياساً بما يحصل اليوم من تضييق ونمطية يمثلها رقباء بعضهم محدود الثقافة، وحديث عهد بالوظيفة، يتحكم بمصائر مؤلفات عريقة جديرة بالوصول إلى هدفها الحقيقي.
في «أبريل 2011» أعلنت الوزارة تدشين خدمة الفسح الإلكتروني للكتب، وقالت إن الكاتب لن يحتاج مراجعتها، وستوفر عليه الجهد والورق، وتمنحه إذن الطبع والنشر بشكل أسرع وأرقى، ولا شيء من ذلك تحقق حتى اليوم. والأخبار الفضفاضة من هذا النوع كثيرة، وليس هذا مجالها.
ومن الظريف أن تمنع الرقابة كتاباً لأحد المؤلفين، وتعطّل طبعه في الداخل، ثم تأذن بتوزيعه بعد طبعه خارج البلاد؛ وهذه «خلطة سرية» نادرة عجزت عن فهمها واستيعاب أسرارها ومراميها.
أرجو أن تعيد الوزارة نظرتها إلى معارض الكتب المؤقتة و»علاقتها العرفية» بالقارئ والساحة وتجعلها علاقة طبيعية حضارية راقية طيلة العام لتزدهر رفوف المكتبات ونقاط التوزيع، وأن تعيد تأهيل رقباء إدارات المطبوعات وتقنعهم بأن الزمن تغيّر، وأننا حيال ثورة رقمية وناشرين يبيعون ويقبضون الأسعار عبر الإنترنت.
لا شك أن الكتاب في وهدته الآن، وقد تكاثرت النصال أكثر مما كان سابقاً، وتنامي المنع، وتقديم الظنون، والاحتفالات المؤقتة المختطفة تجعله في سوق ينخفض فيها مستوى القيم، وتتقاذفه بين خانتي التسليع الرخيص، أو المحرّم المطلوب من خلف حجاب.
محمد المنقري - الرياض