إن أغرب مقولة مجتمعية تُقال لفئة الشباب هي: (دعه ليعشْ شبابه حتى ينضج) وهي مقولة سلبية وغير عملية، والأَوْلى أن يُقال: (دعه ليكن مسؤولًا حتى ينضج)، لأننا بالمقولة الأولى نصنع للشاب قناة مغلقة لكل مجارف فتوته، قد يُعبّر هو فيها بأسلوب غير مسؤول، ويخرج منها بهوية مرتبكة، أو مضطربة غير متسقة مع الذات الطبيعية والسلوك السويّ، على عكس المقولة الثانية التي تصنع الشاب بشكل إيجابي وتدربه على أن يمارس حس المسؤولية الذي يُنتج هويًة قريرةَ التفاعل الاجتماعي الإيجابي.
هل فئة الشباب تُخدم مؤسسيا؟ وكم مركزًا للأبحاث عن الشباب وعن واقعهم بصورة تنأى بهم عن الحديث النمطي بتعبيرات مجازية لا معنى لها في واقعهم؟ وهل هناك من يقف على واقع الشباب والشابات، ويُفعّل أدوارا مؤسسية في استثمارهم؟ واقع الشباب في أغلبه واقع مُرتبك، ففيه إما التبعية والتقليد حتى يَقِرَّ نسخةً مكرورة في الصناعة المجتمعية، وإما الضمور بسبب قلة المنصات الراعية والموجهة لبواكير نشاطهم العقلي والجسماني.
أقف هنا مع مجلة تطوير الشباب Journal of Youth Development الأمريكية التي تنال حظا من الأبحاث التاريخية والآنية المهمة لشرائح الشباب والشابّات، ولأنماط تشكلهم وتفاعلهم الاجتماعي والاقتصادي. وتقدم هذه الأبحاث التاريخية والآنية دراسات ممتدة لمائة عام، وتوصيفًا لصور مستجدات كل جيل يظهر بعد 33 عامًا، وكيفية استثمارهم وفقا للمحيط البيئي والمعطى الجيوسياسي وأدواتهما الاقتصادية. وتربط هذه الأبحاث بين نتائج البحث وأفكار التفعيل الاستثماري لحياتهم وبين قنوات الاستثمار التي يحتاجها الشباب، وذلك وفقا للواقع البحثي العملي؛ ومن أجل أن تضع الواقع كما هو ومن ثمت تبحث عن طرائق معالجة السلبيات العمومية في تلك الفئة، ولا تستهدف من الشباب إلا ممن تكون اتجاهاتهم ذات طابع مسؤول. وتركز هذه المجلة على محاور أساسية في استثمار الشباب، وهي: أحداث كل عقد من القرن وأثرها على تكوين الأجيال، وبرامج تطوير الشباب علمياً وعملياً واجتماعياً، والتفاعل مع احتياجاتهم، ومستقبل الشباب بين سندان القرارات ومطرقة مفترقات طرقٍ بلا مسارات.
من المهم مؤسسياً أن تنال القلة من هذه الفئة التي تُشكّل أيقونات فاعلة علمياً واقتصادياً وعملياً تدويرًا إعلاميًا رسميًا مستمرًا، ومن المهم أن يُدخَلوا في أنظمة القرار والتأسيس من أجل إرساء مبدأ (التجديد العملي). وكل مجتمع تصل فيه شريحة من الشباب إلى أرضيات استثمارية تُفيد وتستفيد معاً، وتصل فيه إلى درجات عالية من المقدرة على صنع القرار والتخطيط، فإنه سيكون بطبيعة الحال مجتمعًا ناجحًا بنجاح جيلٍ طويل الأجل، وسيكون تأسيساً لمفهوم التجديد العملي لكل جيل لاحق، ومُحجّمًا لسلبيات هذه الفئة ومن عبثها الناتج من أفعالها والمؤثّر داخل إطارها المغلق.
وفي بحث في محرك جوجل باللغة الإنجليزية، تظهر الملايين من النتائج التي تحكي لنا واقع شرائح الشباب المؤثّرة وذلك بالعبارة المفتاحية influential young ؛ وأكثر النتائج كانت للكلمة leaders (أي: قادة شبابية مؤثّرة) بواقع خمسة ملايين ونصف نتيجة تقريبا، أما أقلها فلشريحة شباب الأعمال الناشئين entrepreneurs بواقع مليوني نتيجة، وتوسطت النتيجتين شريحةُ المشاهير من ذوي الغناء والفن الساذج والتمثيل الأبتر والأزياء والتجميل؛ وكلها فقاعات ثقافية -كما نعلم - لا تؤسس شيئا.
والسؤال المهم هنا: من يصنع هؤلاء؟ الجواب قطعا هو: المؤسسات المدنية وصناع القرار، وهذا واقع يُوضع على المحك، وبتجارب دول برهنت على أن نجاح فئة من الشباب مرهون بنجاح الفعل المجتمعي المؤسسي. أما شريحة المشاهير فيصنعها المجتمع، وعلينا أن نعترف بأن القلة (الكثيرة بجيدها) صُنعوا من مؤسسات راعية حفظت حقوق صناعاتهم، بل أعانت على تطويرها ونشرها وفتح استثمارات جديدة لاحتواء غيرهم. أما الكثرة (القليلة بجيدها) من المشاهير الذين يصنعهم المجتمع فهو دليل على واقع المجتمعات وطبيعتها، ولا يمكن أن تكون الكثرة في المجتمعات قادرة على تفعيل أرضيات استثمارية حقيقة، ولا يمكن أن تكون الكثرة فيها مدركة لما ينفع فعلاً، وكل من لا يقتنع بهذا الكلام فهو خارج دائرة سنن الحياة وتجارب البشر، وعليه أن يُخبرنا عن كوكبه ليُفيدنا بما لا يُرى.
وأزيد في ذلك وأقول إن المثل السائر (اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً)، أو الآخر (التجربة خير برهان أو خير معلم) لا يستحوذان انتباهي كثيراً؛ لأن التجربة لا تُفيدنا إلا في معرفة الأخطاء، ولا دور لها في إحداث الحلول المستديمة باستدامة تجديدها وتحديثها، والحلول ليست مرهونة بالمجرِّب، بل مرهونة بمن يُحدثها في الحياة المجتمعية العملية سواء كانت تجربته جديدة أو متقدمة (والمتقدمة هنا غير المتراكمة). وكثيرٌ مما يُستحدث من الحلول قد كان من فئات شابّة، بل وكثير من الطاقات والصناعات قد ظهر من الفئة الشابة، وكثيرٌ من الإبداع قد أُنتج في الفئة العمرية التي تمتد من دخول الجامعة حتى بلوغ الأربعين، وعليه فإن فائدة معظم المجربين هي أن يُخبرونا بالأخطاء، لكي تُتفادى؛ وليس في استحداث حلول لجيل جديد يتناول أدوات معرفية تتغاير وتتطور وتتبدل، وهذا ما أؤمن به.
لفتت نظري ورقةٌ أعدها البنك الدولي بالتعاون مع برامج الأمم المتحدة للشباب والطاقة، وتلخص هذه الورقة أهمية استثمار الشباب، وتحكي لنا عن قوة المجتمعات التي تكمن في نتائج ذلك الاستثمار الفعّال، وتفيد بأن كثيرا من الدول تخسر من ميزانياتها ما يقارب الـ 3 % بسبب السلوكيات السلبية من هذه الفئة، فهناك-مثلا-سلوكيات من هذا النوع تسببت بخسارة ما نسبته 2 % من الاقتصاد السنوي في الدول الكاريبية. وتضيف هذه الورقة بأن علاج التراكم الديموغرافي وكثرة السكان تكون سهلة بفعل التقليل من مشكلات الشباب السلوكية. وقد صدر نظامٌ في الأمم المتحدة-في منتصف العقد الأول من هذا القرن-يشجع الدول على استثمار مراحل الطفولة أولا مرورا بالمراهقين وصولا إلى الشباب وضمن البيئة الاستثمارية الفاعلة بهم، واندفعت مراكز الأبحاث التابعة للأمم المتحدة إلى تحليل واقع الأطفال والشباب لصالح تلك الدول، وانطلقت إلى رفع سقف الوعي بتفهّم الحياة المجتمعية، وهذا التفهّم يعد المفتاح الأول للقناعة في ضرورة استحداث ما يقلل عمليا من سلبيات هدر طاقات الشباب. وعملتْ الأمم المتحدة على تطبيق برنامج استثماري لطلاب المدارس في المكسيك من أجل الحد من الترنّح من دون عمل، أو الحد من الإجرام، أو التصدي للدخول غير النظامي إلى الولايات الأمريكية المتحدة، أو الاحتماء من تعاطي المخدرات ومزالقها، وأعان هذا البرنامج على رفع نسبة التزام حضور الطلاب في عاصمة المكسيك بنسبة عشرة بالمئة. ومن صور الاستثمار في الشباب ما قامت به جامايكا من إنفاق 3 % من الدخل المحلي منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، الأمر الذي نتج عنه توليد ما يزيد على 5 % دخلا مضافا بشكل سنوي من ذلك الاستثمار لخزينة الدولة.
ويفيدنا مكتب المصادر السكانية Population Reference Bureau بتقرير أعده رايشل نوجت Rachel Nugent (2005) بأن عدد الشباب بين الفئة العمرية (10-24) في الدول المتقدمة عدا أوروبا سينخفض من 236 مليون إلى 207 مليون بين الأعوام (2006-2025)، ومن 140 مليون إلى 111 مليون في أوروبا، أما في بقية العالم فسيظل العدد في ارتفاع حتى عام 2025م، والملفت في التقرير هو أن نسبة الانخراط في العمل من الشباب في الأعوام الأخيرة يزداد للشاب أكثر من الشابة في الدول المتقدمة، ويزداد للشابة أكثر من الشاب في الدول النامية (قاعدة بيانات لابروستا Laborsta). وهذه مؤشرات طفيفة إلى أن فئة الشباب في الدول النامية ستكون أكثر من قرينتها في الدول المتقدمة، وبأن الشابة ستكون أكثر من الشاب من حيث العدد السكاني في الدول النامية.
ونشرت منظمة العمل الدولية International Labour Organization دراسات قام بها مجموعة من الباحثين الدوليين حول اتجاهات الشباب في عام 2013، ومن يطلع على هذه الدراسات يجد كمية المخاطر والمساوئ التي تطفح بين سطورها في جيل الشباب في العالم، وما يعتور تلك الكمية من مسببات تعود إلى الفجوة بين حدّين؛ الأول: عدم اتساق المهارات التي يتدرب عليها الشباب مع سوق العمل، والثاني: عدم اتساق (أو تواؤم) سوق العمل بين نفسها وبين الظروف المحلية السكانية والبيئية الإسكانية وحجم الفئة الشابّة، ولا أستطيع هنا أن أجزم أي الحدّين أكثر جلاء لمشكلات شبابنا في مجتمعنا السعودي، ولكن الجدير ذكره هو مما تضمنته تلك الدراسات، وعلى وجه التحديد ما قام به كلٌّ من ماتسوموتو Matsumoto وهنجي Hengge، وإسلام Islam (2012) من تحليل قياس اقتصادي لأثر الوفورات الاقتصادي لصالح الشباب واستثمارهم واقعيًا، وخلاصة التحليل هي أنه (كلما زاد الاستمثار في الشباب وللشباب قلَّ العبء الإنفاقي الحكومي على الدول الصناعية فضلا عن الدول ذات الاقتصاديات المتوسطة والضعيفة)
لا شيء يعالج مشكلات البطالة والشباب والشابات إلا الاستثمار، وكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، وفئة الشباب مسؤولية صنّاع القرار في وطننا، ومسؤولية رجال الأعمال، ومسؤولية مؤسسات المجتمع، ولا يُمكن أن يُلقى كل اللوم عليهم دون أن يُلقى على من لا يُحسن استثمارهم (وما أكثر طرق إحسان استثمارهم لدنياهم وحيواتهم!)، وبما أن هناك قنوات استثمارية ممكنة وسهلة لكثير من هذه الفئة تعين على رفع سقف الإنتاج المحلي (أو المحلي والقومي كما تفعلهما الصين)، فإن السؤال الأساس عندئذ هو (متى تبدأ؟).
د. سلطان المجيول - الرياض