حُبُّ الظهور وعشق التميز وتحقيق الغايات الشخصية قضيةٌ أزليةٌ قديمة، وُجدِتْ منذُ بدء الخليقة، حيث يعمد الفرد إلى بذل كلِّ محاولةٍ من شأنها أن تمنح ذاته نوعاً من الخصوصية، تساعده على التميز والتفرُّد، وتعينه على الابتعاد قدر الإمكان عن أكبر عدد ممكن من الصفات التي يتشارك فيها مع غيره من بني البشر، ولهذا تجده يمارس أعمالاً ويميل إلى ممارسة أفعالٍ مختلفةٍ عن أفعال الباقين، كي يثبت وجوده، ويميز نفسه، وهو أمرٌ يشعره بسعادةٍ غامرة، ولذَّةٍ يحسُّ معها أنَّ حياته لها قيمة، تستحقُّ هذه الأفعال الاستثنائية معتقداً أنها تمنحُهُ هذه الخصوصية التي يتعامل معها بوصفها هدفاً بحدِّ ذاته، ينبغي أن تُسخَّر له كافة التصرفات والممارسات التي لا تشبه ما يفعله الآخرون.
والحقُّ أنَّ السعي إلى تحقيق الشهرة والحصول على التميز أمرٌ ليس بالجديد ولا بالغريب، فنحن نمارسه كلَّ يومٍ حتى دون أن نشعر، ونسعى إليه متى توفَّرتْ السبل إليه، نعم، ربما لا يكون الهدف الوحيد من أفعالنا، لكنه بالتأكيد هدفٌ يتربَّع الصدارة، ولا يمنع أن يأتي بعده أهدافٌ أخرى قد نكون صادقين في قصدها وقد لا نكون، وكم نخدع أنفسنا حين ننكر ذلك!
ولعل هذا ما يجعلني أؤكد أنَّ النفس الإنسانية حين تمارس أيَّ عملٍ في الحياة إنما يكون هدفها الأول إرضاء النفس، وتحقيق الغاية الشخصية، وتلبية المطامع الذاتية، حتى في الأفعال التي قد يبدو ظاهرها غير ذلك، كالتصدُّق لوجه الله خفية، فأنت حين تفعل ذلك تعلم يقيناً أنَّ هذا التصدُّق أولاً يحقق لك راحةً نفسية تحتاجها من خلال رؤيتك لهذا الفقير فرحاً بعطائك، أو يرضي روحك التي تؤمن بأهمية هذا الفعل، إضافةً إلى أنك تريد من خلاله أن تكون محظياً عند الربِّ سبحانه وتعالى، وأن تكون متميزاً بنيل رضوانه والدخول في جناته، وإذا كان الأمر كذلك في مثل هذا الفعل فإنه سيبدو واضحاً أكثر في غيره من الممارسات الأخرى.
إنني أعي تماماً أن مثل هذا الكلام قد لا يعجب كثيرين، خاصة أولئك الذين يدَّعون أن إرضاء مطامعهم الذاتية آخر اهتماماتهم، وأنَّ إثبات الوجود وحبَّ الظهور والشهرة شيءٌ ينبغي أن يُعفَّ عنه، وكلُّها ادعاءاتٌ يستحيل تصديقها ويسهل تفنيدها؛ لأنَّ هذه الرغبة الإنسانية فطرةٌ لا يمكن الهروب منها، ومقصدٌ أساسٌ لا يمكن التملُّص منه، فحبُّ الإطراء والاستماع إلى الثناء والرغبة بالتميز والانفراد بخصوصية ما أمرٌ مركوزٌ في طبيعة الإنسان الذي يعشق بهذه الطبيعة نفسه ويهيم بها، ويحبُّ لها المتعة التي يعتقد أنها كذلك، والنعيم الذي يؤمن أنَّ ذاته في أمسِّ الحاجة إليه.
وقد أدرك بعض الشعراء هذه الحقيقة، فصاغوها بصورةٍ ألبستها لباس الحكمة، مع أنها لا تحتاج إلى حكيمٍ كي يدركها، فهذا أبو الطيب المتنبي يتحدَّث عن حبِّ الذات، والاحتفاء بالنفس، والأسباب المختلفة والوسائل المتضادة التي تسعى في النهاية إلى تحقيق هذه الغايات، حيث يقول:
أرى كلَّنا يبغي الحياة لنفسِهِ
حريصاً عليها مُستهاماً بها صَبَّا
فَحُبُّ الجبانِ النفسَ أوردَهُ التـُّقَى
وحُبُّ الشُّجاعِ النفسَ أوردَهُ الحَرْبا
إن حبَّ النفس هو الذي جعل الجبان يتقي الحرب ويعشق البقاء؛ لأنه يريد أن تنعم نفسه في الدنيا، وأن تستمتع في الملذات، والهدف نفسه هو الذي جعل الشجاع يرد الحرب ويقتحم ميادين القتال؛ لأنه يريد أن يبقى في هذه الحياة ويستمتع بملذاتها، إضافةً إلى إرضاء نفسه التي عشقت وطنه وقبيلته فهبَّ للدفاع عنهما، والأهم من هذا وذاك تحقيق الانتصار والفخر بالذات حين تغلبتْ على الخوف وانتصرتْ على العدو الذي كان يريد سلبها هذه المتعة وإفناء هذا النعيم، هذا حين يتحقق الاحتمال الأول وهو الانتصار والبقاء، أما إذا لم يمكن ذلك فنفسه أيضاً تحبُّ أن تُذكَر بالشجاعة والإقدام، وأن يبقى لها الأثر الحسن الطيب بعد الفناء، وأن يُقال عنه إنه كان يذود عن الوطن ويحميه، وأنه شجاعٌ جعل روحه فداءً للوطن أو للدين أو لأيِّ أمرٍ يكون القتال من أجله، إضافةً إلى تحقيق الغاية الأخروية من خلال الجزاء الحسن والحصول على النعيم المقيم إن كان مؤمناً بذلك.
- الرياض
Omar1401@gmail.com