جلست منذ أكثر من شهر لأول مرة أمام أرشيفي السينمائي وجلست أيضا أمام أرشيفي المقالاتي إن صح التعبير.
في أرشيفي السينمائي عجبت وأنا كنت أشحذ جوازات السفر حين حرمتني بلادي من هذا الحق، كيف استطعت أن أنقل وأتنقل وأنا أمامي ما يقرب من خمسمائة كيلو غرام من الأفلام السينمائية التي أخرجتها وصورتها بالمادة القديمة «السليلويد» عبر المطارات ومؤسسات الجمارك والسين والجيم وأنا أحملها من بلد إلى بلد إلى بلد ومن وطن إلى وطن إلى وطن. ولا أعرف اليوم كي أحفظها وبأية شروط مناخية! إذ لم تعد عندي قناعة في وطن هدم كل تاريخه وذاكرته المرئية! فعلى تلك الأشرطة وما تحتويه من مواد مثيرة وتاريخية وإنسانية أن تبقى لوحدها وتواجه مصيرها مثل ما يواجه الإنسان مصيره!
وجلست أيضا ولأول مرة أمام أرشيفي المكتوب. كان صعبا علي حساب عدد المقالات والدراسات التي كتبتها مذ كنت في مقتبل العمر، كم كتبت من المسرحيات والسيناريوهات والقصص والروايات والمذكرات، والمهم كم كتبت من المقالات.
جلست أتصفحها في محاولة لأرشفتها وفرزها ضمن ملفات الحاسوب، وتصفحت بعضها وقرأتها فجلبت إنتباهي طبيعة الموضوعات التي تعالج الواقع وتشخص مفرداته وترجو معالجة. هذه المفردات كتبت عنها بروح المحبة الوطنية والإجتماعية والثقافية!
لاحظت إن كافة المقالات التي كتبتها والتي من الصعب حصرها وحصر الصحف والمجلات التي ترأست تحريرها أو التي كتبت فيها لم أتلق مقابلها كلمة شكر من حاكم أو مسؤول أو حتى من مؤسسة إجتماعية عربية وإسلامية، فيما تلك المقالات كانت تعالج واقع المجتمع بروح المحبة، ولكن إذا ما وجدت كلمة نقد في المقال أو مر معنى ما بين سطور المقالات يفهم منه الحاكم أو المسؤول انه المعني به وأحس بملاحظة نقدية موضوعية لشخصه أو لمؤسسته الحزبية والأمنية حتى يصدر أوامره إلى أجهزته الأمنية وشرطته وأعضاء حزبه بملاحقتي حتى أنني تعرضت لأذى شديد وفي منتهى القسوة في أقبية بيوت الأشباح؛ لأنني وضعت باقة ورد على قبر شاعر لمناسبة مرور مائة عام على ميلاده والشاعر لم يكن يعجب الحاكم! فدمرت هذه الحادثة جانباً من حياتي وهجرت الوطن والحاكم.
لماذا يتسم حكامنا والمسؤولون عن حياتنا ووزارات ثقافتنا وإعلامنا بهذه الروح القاسية؟ ولماذا لا نرد التحية بأحسن منها أو نرد عليها في حين يرصدون حياتنا لمجرد خاطرة جميلة مداعبة تشبه رسم الكريكتير أو حتى نكتة تحقق الإبتسامة في مقهى أو لمحة نقد مرت مثل نسيم عليل في صيف قائظ تمس الحاكم من قبل المحكوم بالمواطنة والمحكوم بالمراقبة والمحكوم بدفتر القضاء ودفتر القدر والمحكوم بالغربة في وطنه! بل حتى يغضب الحاكم من باقة ورد على قبر شاعر مرهف لم يكن الحاكم على وفاق مع أفكاره أو انتمائه القومي.
قبل فترة صعدت «كاترينا آماليا» ابنة ملك وملكة هولندا على دراجتها بعد أن أكملت المدرسة الإبتدائية وذهبت نحو المرحلة الدراسية الثانية مجتازة الغابة نحو المدرسة، وكان أحد ما قد صورها في كاميرا الهاتف النقال وهي خارجة من بيتها متوجهة وحدها نحو المدرسة، فأثارت اللقطة انتباهي وكتبت عن الأميرة الصغيرة خاطرة نشرتها في صحيفة الجزيرة السعودية.
ما أن وصلت المقالة ديوان الملك الهولندي وقرأها مستشاروه حتى وصلتني رسالة ينقلون بها شكر ملك هولندا وملكتها على المقالة التي وصفت بالجميلة ولم ينسوا صحيفة الجزيرة السعودية بالاسم وهم في شدة الامتنان لهذه المبادرة.
كل المقالات الجميلة والإيجابية التي كتبتها من قناعة حبي للحياة وحبي لأوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان لم أتلق مقابلها كلمة شكر واحدة، بل أن باقة ورد وضعتها على قبر شاعر ولد قبل مائة عام ومات وحيداً، لأنه لم يعجب الحاكم فقد رماني في غرف التعذيب وغرف الموت المظلمة وحرمني حتى من وثيقة السفر والهجرة.
أنقل لصحيفة الجزيرة شكر ملك هولندا وملكتها.
ترى ماذا خسر الملك وماذا خسرت الملكة وماذا خسرت هولندا في أن تقول للكاتب العراقي المقيم على أراضيها ولصحيفة الجزيرة السعودية عن مقال جميل كلمة شكراً؟!
- سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا
k.h.sununu@gmail.com