ما هي التبريرات الدينيّة التي يستغلها الإرهاب كي يغلّف أعماله بشرعيّة دينيّة تجذب إليه الأنصار والمتطوّعين من الجنسين؟ كيف يمكن التصدّي إلى المنبع الفقهي الذي يعتمده الإرهاب، وليس إلى سلوكه فحسب، فالغاية إضعاف قدرته على تجنيد المزيد من المقاتلين المغرّر بهم تحت حجج دينيّة لا يعترض عليها الإسلام الرسمي في أنظمة سياسيّة، لم تحسم مسألة الفصل بين الدين والسلطات الثلاث، ولذلك تحتاج إلى المؤسّسات الدينيّة الرسميّة لأجل تأثيراً على العموم التابع لهم؛ حينذاك، وتحديداً، حينما يجرّم الإسلام المؤسّساتي القتل تحت ادّعاءات تكفيريّة وما يقع في حكمها، وأنّ الناس أحرارٌ فيما يعتقدون وأمرهم عند الله، وأكثر هذه المؤسسات تندرج تحت سلطات الدولة، حينذاك فليبحث الإرهاب عن أسباب أخرى يحرّض بها أصحاب العنف دون أن تكون في سياقاته وتحريضاته مبرّرات دينيّة يتبنّاها الإسلام الرسمي نفسه في العديد من الأنظمة العربية. وهذا لا يعني أن الإرهاب سوف يتخلّى عن تبريراته الدينيّة في ممارسة القتل، ولكن خطابه سوف يفقد قوّته حينما يدّعي أنّه يُنفّذ ما جاء في الإسلام الرسمي نفسه، والذي يتراخى عن تنفيذ هذه الأحكام.
* *
لقد أشرنا في مقال: (القتل والتكفير المنشور في ثقافية الجزيرة 17- تشرين الأول)، أنّ التكفيرَ موجودٌ في الغرب، لكنّه لا يحمل الخطر الدمويّ ذاته، لأنّه فاقد للقوّة والحقّ السياسي والتشريعي في تنفيذ هلوساته وتصفية الناس وفقاً لمعتقده الخاص، ولذلك قد تجد راعي كنيسة يكفّر أتباعه المختلفين عنه في الحقائق العلميّة لتاريخ ونشأة الكون عن التصوّرات التوراتيّة-الكنسيّة مثلاً، ولكنّ أحداً من رعيّته لن يتبرّع لقتل هؤلاء المرتديّن المسيحيين من داخل كنسيته؟ لماذا؟ لعدم وجود تشريع فقهي (ما زال سارياً) يبيح قتل الكافر المرتد المسيحي.
أمّا المسلمون فحسبك العديد من تأويلات الآية الخامسة لسورة التوبة والعديد من النصوص المتداولة والمنسوبة إلى النبي العربي عليه السلام، كما الحديث: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيديه، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، وهذا الحديث (بغضّ النظر عن صحّته أو عدم صحّته) مرتبط بواقع محدوديّة الموارد البشريّة المؤهّلة لتنفيذ القانون عند نشأة الكيان الأوّل، (كما فعل لاحقاً الخليفة عمر عند تأسيس الشرطة)، فذلك قرار تنظيمي أمني يتماشى مع مضمون الحديث المتعلق بسلطة أمنية، وليس رخصة لأيّ مسلم أن يقوم بتنفيذ ما يظنّه منكراً، وإن كان بعض منطوق الحديث يشير إلى ذلك، والخطر في شيوع المعنى الذي يعطي رخصة للأفراد بتنفيذ ما يغيّر المنكر: وهذا ما يفتح الأبواب على وجود سلطة داخل سلطات الدولة، ويحدث تعارضاً أمنيّاً بسبب التفسير المطلق للمنكر، والذي مرجعه ثقافي، قد يختلف بين عائلة وأخرى، ويبقى الحديث (على صحّته) أنه مرتبط بسبب الظرف التاريخي قبل نشوء الشرطة التي أصبحت مسؤولة عن الأمن، كما يتحمّل أن لا يكون موجّهاً بطبيعة الحال للعموم إنّما لأمّة من الناس (هم صحابته) الذي خوّلهم بصلاحيات تنفيذ القانون.
وعلى هذا التمثيل وليس الحصر، فإن بقاء المعنى التقليدي ينافس السلطات في تنفيذ الأحكام، ويفتح باباً للقتل نتيجة التكفير، ذلك أن عموم المتديّنين يرون الكفر أشدّ منكراً، وهكذا يكون قتل الكافر أقوى الإيمان استناداً إلى تأويل الحديث وما يدعمه في سياقات وملابسات أحكام الردّة السياسيّة وكيف تحوّلت إلى ردّة دينيّة يستفيد منها الإرهاب المعاصر في تنفيذ تصفياته تحت تفسيرات محرّضة للقتل ومبرّرة بالتكفير، إضافة إلى أساس التشريع الفقهي في تأويل الآية الخامسة من سورة التوبة، والتي يسمّونها (آية السيف) والتصوّر الذي يستندون إليه في إلغاء 113 آية في القرآن الكريم تحت تصوّرات الناسخ والمنسوخ، وجميعها آيات في التعايش وتعزيز السلم الأهلي بين المختلفين دينياً وعرقيّاً.
وهؤلاء الذين يقتلون الذين يظنّون أنّهم كفّار أو خارجون أو مخالفون، إنّما ينفّذون ما يؤمنون به إيماناً مطلقاً لم يجدوا في الدراسة أو المجتمع أو القنوات أو الإسلام الرسمي ما يقف ضدّ شرع قتل المخالف /المرتد/ الكافر، وأنّهم يفعلون ذلك ابتغاء لمرضاة الله، وفقاً للإسلام الرسمي المعتمد في أدبيات وفقهيّات العديد من أنظمة الدول العربية والإسلاميّة. ونظراً لوجود تأويلات أو ثغرات أو تشريعات صريحة في بعض أنظمة الدول العربيّة تندرج تحت عقوبات الفكر والدين، فإنّك تجد الكثير من قضايا التطرّف والقتل معثّرة ولم يصدر فيها أحكام، وذلك لوقوع التناقض على القضاة المشايخ في الإفتاء والحكم والتجريم والإعدام لأنّ القاتل صاحب حجّة موجودة في مصادر القضاة المشايخ أنفسهم، وهم يأخذون بها ولا ينكرونها، كما أنهم لا يعتبرونها تاريخيّة مرحليّة على أقل تقدير، لذلك -ومن المفارقة العجيبة- أن تتحوّل أدبيات هكذا محاكمة في افتراض مسرحيٍّ، ليبقى الخلاف ليس على القتل، إنّما على حجّة التكفير فتتحوّل المحكمة من مُحاكمة القاتل إلى محاكمة القتيل: (هل كان القتيل كافراً وفقاً لتصوّرات القضاة المشايخ؟ هل استوجب حكم القتل؟)، وتحت هذه الأسباب يمكن أن يدان القاتل، ولا تدان عملية القتل نفسها أو السياق التشريعي الفقهي الذي أوصل إلى شرعنة القتل!
* *
هل التكفير سببٌ للقتل؟ قد تبدو أنّ عمليات القتل بالاستناد إلى التكفير، أنّها النتيجة الحتميّة من وراء التكفير، فإن لم يكن التكفير لم يكن القتل، وهذا منطق معكوس يجعلك تظنّ أنّ العلة هي التكفير فتمضي بحثاً في كيفيّة لجم التكفير ومحاصرته، لكنّك زمن بعد آخر لا تقدر على حصاره أو تخفيفه، وكلّ ما يمكن فعله هو زيادة الأمن بحيث إن القتل لا يتكرّر في هذا السياق ليس لاستئصال شأفة التكفير إنما بسبب زيادة الأمن، فإذا ما غفلت عين أو وقعت ثغرة أمنية عاد القتل إلى الظهور تحت ذرائع التكفير، فأين كانت البرامج والتوجيهات والمحاضرات والتأهيل وما يندرج تحتها من مساعي تقوم بها السلطات من أجل تجفيف منابع التكفير، ومرّة أخرى نعود إلى أساس الموضوع: هل التكفير هو العلّة والقتل نتيجة؟
وكما أظهرنا في المقال السابق وما نقدّمه هنا، فإنّ النفي على هذا التساؤل هو التوجّه الذي نضيفه عبر هذين المقالين، فليس من طبيعة التكفير بالضرورة ارتباطه بالقتل، وإن كان كذلك فيستحيل استئصاله لأنه من طبيعة الفكر الديني؛ هل كان من الممكن للقتل أن يكون نتيجة مباشرة للتكفير إن لم تكن هناك فتاوى دينيّة (تولّد) للتكفير نتيجة تتمثّل بممارسة (القتل في الدنيا) بعد أن حصر المتن الديني نتيجة الكفر في سياق مؤجّل لما بعد الحياة، وليس الدنيا مجال لذلك، فأنت على صعوبة تحديد الكفر لأنّه يرتبط بتعريفات خاصّة بكلّ مذهب وديانة، فأنت كذلك لن تجد له عقوبة دنيويّة محسومة بالنص، بل أمره معلّق ومؤجل.
ولذلك فإنّ الإصلاح يجب أن يبقى مشغولاً بالظاهرة الدمويّة/القتل، ويستوجب محاصرة الفتاوى الدينيّة التي تبيح قتل الكافر وكلّ ثقافة تروّج إلى هذا التصوّر عبر التشريعات والتعليم والقنوات على أن هذا التصوّر من الدين، وذلك من مهام سلطات الدولة ومسؤولي المؤسسات الدينيّة الرسميّة، بإصدار تشريعات تعزل التكفير عن قوّته التي يتسلّح بها وتجعله قابلاً لتوليد عمليات قتل، ما كانت لتحدث تحت تبريرات دينيّة إن أعلن الإسلام الرسمي تخلّيه عن الربط بين الكفر وعقابه الدنيوي. حينذاك لا يكون القتل نتيجة للتكفير، وإن ادّعى القاتل هذا التبرير، فإنّه لن يلقى أكثريّة جماهيريّة مؤيّدة له بسبب أنه ينفّذ الإسلام الرسمي، لطالما عموم المسلمين اليوم، يرون هذه الأعمال وينبذونها ويرفضونها لكنّهم في الوقت نفسه يتساءلون: هل حقيقة هذه الأعمال تخالف الإسلام الرسمي؟ أين هو الموقف من التفسيرات والسياقات الفقهيّة التي توصل إلى تشريع القتل على أنّه جزءٌ من الدين ويؤجر من يقوم بتنفيذه؟ ومن هنا فإنّنا لا يمكن أن نراهن على تجفيف منابع القتل عبر تشريعات تمنع التكفير فحسب (ويستحيل تطبيقها في نفوس المؤمنين)، لكنّها لا تلتفت إلى القضيّة الأساس: (شرعنة وديننة قتل الكافر ومن يقع في حكمه).
- جدة