الثقافية - محمد هليل الرويلي:
هكذا بدأتها تونس الخصراء وهكذا أنهتها، الكلمة انتصرت وانهزم السلاح، أثبت المثقف التونسي أنه القبلة الحقيقية للعقل والرشاد وما وراء الأشياء. العالم كله يحتفل بتونس ويشيد بدور العقلاء والنخب المثقفة «مجلتكم الثقافية» هناك تقف بين جموع المثقفين تستطلع رؤاهم وترصد مشاعرهم بعد إعلان
لجنة نوبل منح جائزة نوبل للسلام لعام 2015 إلى المنظمات الأربع التي قامت بالوساطة في الحوار الوطني في تونس تقديرًا «لمساهمتهما الحاسمة في بناء ديمقراطية متعددة بعد ثورة الياسمين في عام 2011».
وتشكلت الوساطة الرباعية من المنظمات الأربع، الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، صيف 2013 بينما كانت عملية الانتقال إلى الديمقراطية تواجه مخاطر نتيجة اغتيالات سياسية واضطرابات اجتماعية على نطاق واسع.
الدكتور حاتم الفطناسي رئيس الجمعية العربية الدولية للحوار والتنمية الثقافية وأستاذ مناهج النقد والأدب والأدب المقارن والدراسات الحضارية بجامعة سوسة قال «للمجلة الثقافية» إنه لا يستطيعُ أيٌّ مِنَّا أنْ يُخْفِيَ غِبْطَتَهُ وشُعورَهُ بالفَخْرِ، بعدَ حُصول تونس، مُمَثَّلَةً في مجموعةٍ من المنظّمات المدَنيّة الأهليّة، على جائزةِ السّلام. إنّهُ شَرَفٌ أثِيلٌ , دون شكّ، فهْوَ عَلامةٌ ودَليلٌ على طِينة الإنسان التّونسيّ المتميّز، عُمُومًا، بالثّقافة والوعي، إنَّهَا القَبُولُ بقوانين العيش المشترك، تُلغي مبدأ الإقصاءِ وتُرسّخُ مَبْدَأ التَشّارُكِ، بعدما هَرَعَ التّونسيُّونَ إلى مكوّنات شخصيّتهم الجماعيّة حَقَّقوا به التَّوافُقَ، فَتَوَافَقُوا حول ضَرُورَته ونَجَاعَته مُؤْمنين بقول الشّاعر : ( لَعَمرُكَ مَا ضاقَتْ بلادٌ بأهلها / ولكنّ أخلاقَ الرّجالِ تضيقُ.) فَما من مفهوم، أعتبرَهُ دالاًّ على « إنسانيّة « الإنسان، لَصيقًا بجوهره المفكّر والناطق أكثر من مفهوم « الحوار هو عمليّةٌ ضروريّةٌ للتعايُش لا غنًى عنها ولا منَاص، إلاّ أنّهُ إذا لمْ يكن مسيّجًا بمجموعة من الضوابط انقلبَ جدلاً أو خصامًا أو صراعًا، وهي البَدائلُ الأقْربُ إلى الطّبيعة في الإنسان قبل حصول الثقافة في مفهومها الأنثروبولوجي. فالجَدلُ أو الخصامُ أو الصراعُ، أفعالٌ مقاصِدُها حُدوثُ الغلبةِ، ومن ثمّةَ الإقصاءُ والتفرُّدُ والتصفيةُ بكلّ معانيها المتوحّشة، وهيَ تفترض بالضرورة عدمَ التكافُؤ بين الخصوم أو الأطراف. إنّها إقرارٌ مسبَقُ بضرورة التفاوُت وعدمِ النِّديّة، على الأقلِ، في قناعةِ كلّ طرفٍ.
وأضاف الفطناسي إذا نحنُ إزاء بلاغتين، بلاغةِ الانتصار وفيها بالضرورة انحدارٌ واندِحارٌ. وبلاغةِ الحوارِ. وشتَّانَ بينهما في المرجعيّات والوسائل والغايات والاستتباعات.
لَمْ يستسْلم المجتمعُ التونسيُّ بكلّ مكوّناته إلى الانفرادِ بالرّأي، لَمْ يَرْكن إلى العُنف، فانْبَرَى السّياسيُّون، على اختلاف أطْيافهم وبادر النقابيّون ورجالُ الأعمال ورجالُ القانون والحُقوقيّون، عبر المنظّمات والجمعيّات إلى الفِعْل، فهَرعوا إلى هذه القِيم ليتحصّنوا بها من بوادر حرب أهليّة واقْتِتال وتشويهٍ لصورة تونس وأبنائِهَا.
واختتم الفطناسي حديثه قائلًا : اختَلَفُوا لكنّهم تَماسَكُوا واسْتلهَمُوا من تجارب الشُعوب، قديمًا وحديثًا، العِبْرةَ فأداروا بينهم حِوَارًا طويلا حقَّقُوا بهِ وعَبْرهُ التَّوافُقَ والمُصالحة عبر إصلاحات قانونيّة واجتماعيّة وسياسيّة وهيكليّة ما انفكّت تتوالى وتتَرّسَخُ. اسْتَأهَلُوا بذلك تهْليلَ النّاس لهم، فإذَا بجائزة نوبِل بِشارةٌ على اهتدائهم إلى سواءِ السّبيل.
فيما وصف المفاجأة أستاذ الدراسات الحضارية والإسلامية والأنثروبولوجيا بجامعات لندن وألمانيا وباريس وعميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة الدكتور المنصف عبدالجليل بقوله فوجئت كما فوجئ غيري بمنح الجائزة وسعدت كما سعد كثير غيري بهذه الجائزة، ورأيت للحظات أنّ اعتراف المنظّمات العالميّة والدول العظمى بما حقّقت تونس في هذه الحقبة الوجيزة إلاّ مصدر فخر لقلّما أحسّ به التونسيّون لفرط عقلانيّتهم، أو لقتامة نظرتهم إلى أنفسهم وتاريخهم، أو لتتالي النكسات على العالم العربي والإسلامي برمّته فغدا الفخر بأيّ مأثرة شبه وهم. كان من أشهر ما يجب أن تفتخر به تونس أيام الأزمة، أزمة الحكم، وال انتقال الديمقراطي، والبحث عن التخفيف من حدّة الإضرابات إلى الانتظام في استقرار البلاد. نرى أنّ تشكّل الرباعى لفكّ الأزمة السياسيّة الخانقة، وتحويل المزايدات الحزبيّة إلى مشاريع تتنزّل في أفق وطنيّ، يمثّل في حدّ ذاته الأرضيّة التي نبعت منها قيم المشروع السياسي الضامن نشأة مشروع مجتمع.
وتابع عبدالجليل إنّ الآفاق التي يروم التونسيّون بناءها ورعاها الرباعي هي آفاق المجتمعات الديمقراطيّة المدنيّة المبنيّة على القيم الإنسانيّة الكونيّة، والنظرة إلى الذات نظرة المؤمن بها بشرط أن تكون مع غيرها أيّا كانت آراؤه، ومواقفه. وإنّما أجلّ الأعمال ما كان لوجه الخير، ونهضة الأمم، وبناء الأخلاق التي تمنع الشرور مثل الحروب، والظلم، والتفاوت، والفقر. وتعتبر جائزة نوبل دعما أساسيّا للمجتمع المدنيّ، ومؤسّساته الحيويّة. وتحتلّ منظّمة الأعراف موطنا حيويّا غيّرت به نظرة العمّال إلى الأعراف. ولكن هذا الذي حقّقه الرباعي، ليس إلاّ لبنة من بناء سيطول تصميمه بجهود الجميع. وهو الرهان الأعظم. جائزة نوبل لتونس جزء من ذاك الرهان.
من جانبها وصفت الباحثة في القانون الدولي وسفيرة الاتحاد العالمي لحماية الطفولة في تونس تقوى بوراوي سعيدانة أنه بعيدًا عن التجاذبات السياسيّة، يعدّ فوز «الرّباعي الرّاعي للحوار» تتويجا لتضحيات الشّعب التّونسي وصبره وشجاعته، وتتويجا لمنطق الحوار والوفاق وغلبته على لغة التشرذم والعنف والإرهاب الفكري والميداني،في ظلّ اشتعال المنطقة بالأزمات.
وإلى جانب منظّمة تُعني بحقوق العمّال،انضمّت للرباعي منظّمة تُعنى بحقوق أصحاب «رأس المال» في توافق قلّما يحدث بين اثنين، انضاف للرباعي الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية ووضع ثقله من أجل حماية مصلحة البلاد.بالإضافة، إلى هيئة المحامين التونسيّين التّي اضطلعت بدور بارز في الحوار، تنويها بدور المحامي التونسي في عملية الانتقال الديمقراطي وتابعت سعيدانة أمّا الضّلع الآخر في هذا المربّع، فهو من نصيب المجتمع المدني الّذي ساهم بشكل فعّال سواء بتحرّكاته الميدانيّة أو بطرح بدائل وتنشيط النقاش في الفضاء العام وتمثله في رباعي الحوار المتوَّج «الرابطة التّونسيّة لحقوق الإنسان»
وعن استحقاق الجائزة كشف أستاذ الجماليات والتفكير النقدي بجامعة القيروان الدكتور معز الوهابي أن السبب وراء ذلك يعود إلى كونها مثّلت هذه المرّة استحقاقا نوعيّا؛ فهي لم تُسند إلى زعيم أو إلى ناشط حقوقيّ وإنّما أسندت إلى مجموعة مؤسّسات تشكّل عصب المجتمع المدنيّ في تونس. فلا ننسى أنّ الرّباعي الرّاعي للحوار يختزل النّسيج المجتمعيّ ضدّ مخاطر الاحتراب الأهليّ الذي أوشكت عليه البلاد في صائفة 2013 إثر عمليّة الاغتيال السّياسيّ الثانية اعتراف لما يمكن أن نسمّيه دون ادّعاء «عبقريّة تونسيّة» في القدرة على ابتكار حلّ لأزمتها السّياسيّة
وأضاف الوهابي إذا تأوّلنا بعجالة ما ورد ضمن تقرير لجنة نوبل، وهي تسند هذه الجائزة إلى الرّباعي التّونسيّ محمود الذكر، من تشديد على كونها جائزة للرّباعي الرّاعي للحوار وليس للأطراف التي يتكوّن منها بصفة فرديّة؛ فإنّنا ننتبه إلى أنّها إشادة بهذا التّكامل بين الرّأسمال الوطنيّ (فئة الأعراف) وبين النّقابات الوطنيّة (شرائح العمّال) بإسناد حقوقيّ قانونيّ (الرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين). وقال أيضًا ولنا أن نقول بأنّ جائزة نوبل للسّلام تتّجه هذه المرّة إلى ثقافة المؤسّسة باختراع ديمقراطيّ محلّي يشي بأنّ العرب قادرون على صناعة الحوار والتّواصل متى عوّلوا على المخزون العقلانيّ لديهم. فليس قدرا محتّما ما يعلق بهم في هذه السّنوات الأخيرة من «طاعون الإرهاب». ولذلك فإنّ هذه الجائزة من شأنها أن تذكّر التونسيين، ومختلف المجتمعات العربيّة المسالمة، أنّه بإمكانهم بعدُ أن يكونوا محلّ احترام في العالَم.
ووصف أستاذ الدراسات الحضارية ومدير المعهد العالي للفنون الجميلة بجامعة القيروان الدكتور محمد الصحبي العلاني إن جائزة نوبل جائزة مخاتلة، ففي أبريل/نيسان من السنة المنقضية 2014، بادر مجلس الجامعات التونسية (وهو أعلى هيكل علمي أكاديمي منتخب من طرف الأساتذة الجامعيين التونسيين)، بادر إلى ترشيح الاتحاد العام التونسي للشغل للحصول على جائزة نوبل للسلام اعترافاً بدوره في تنظيم الحوار الوطني ورعايته إلى جانب ثلة من المنظمات الوطنية القديرة، ترشيح 2014 لم يكن سالكا، وذهبت الجائزة إلى الباكستانية ملالا يوسف زاي والهندي كايلاش ساتوارثي، ونسي التونسيون الأمر وظنوا أنهم أصبحوا خارج اللعبة، وانغمسوا في الأحداث المستجدّة التي لم يكن لهم بها عهد، أحداث الإرهاب ومحاولات الاغتيال وما يتبعها من تراشق إعلامي واحتقان سياسي وصراعات إيديولوجية إلى أن حلّ ظهر يوم الجمعة 9 أكتوبر 2015 عندما شرع المشرفون على م واقع التواصل الاجتماعي، وخاصة صفحات الفيسبوك، في تداول خبر حصول الرباعي الراعي للحوار على جائزة نوبل للسلام.
ظن الكثيرون –وقد كنت في الحقيقة منهم- أن الأمر يتعلق بمزحة، خفيفة أو ثقيلة، لا يهم! بعدما غلب على التونسيين اليوم شعور بانعدام الجاذبية! إلى أن تأكّد الأمر من خلال كبريات وكالات الأنباء والقنوات العالمية.
وتابع العلاني جاءت الجائزة في وقت لم ينتظره أحد ولكنها جاءت –بكل تأكيد- في الوقت المناسب تماما شخصيًا لا أميل إلى التمجيد وأحرص على أن يكون تقييمي موضوعيا، من هذا المنطلق يمكنني القول إن الجائزة كانت اعترافا دوليا صريحا بأهمية الحوار في إدارة الصراعات مهما يكن حجمها وعسر التعاطي معها. فقبل إقدام الرباعي الراعي للحوار على طرح مبادرته لزحزحة الأزمة السياسية كانت تونس كلها على فوهة بركان ولكن –رغم حدّة التجاذبات- فإن طاولة الحوار قد اتسعت لتضم حولها من أرادوا حقّا اعتماد النهج السلمي في حل الأزمات. المستقبل يُصنع بلغة الحوار وهذا هو المهم بالنسبة إلينا في سياق كالذي نحن فيه.
وختامًا قال الشاعر حافظ المحفوظ أن تدخل جائزة نوبل في أي اختصاص بلدًا ما فهذا في ذاته حدث هام جدا اليوم دخلت نوبل للسلام تونس وهي متعبة من شمالها إلى جنوبها
. كان هذا الخبر هو ما كان ينتظره التونسيون ليعودوا كما كانوا شعباً طموحاً يتوق إلى الحداثة
لذلك سيكون حصولها على جائزة نوبل للسلام بمثابة الاستقلال الجديد من نير الحركات المتطرفة التي كادت أن تعيد البلاد إلى الظلمات. استقلال جديد.هكذا
أما المثقفون فلا يمكن أن تصف لهجتهم بهذا الانجاز العالمي الكبير فسيفتح أمامهم أبوابا كانت مغلقة بالأمس القريب. لهذا اجتمعوا كل في ولايته تلقائيا للاحتفال الكبير ولكشط السواد الذي عمهم منذ الثورة.
سيكون لهذه الجائزة بلا شك التأثير الإيجابي على الثقافة التونسية التي ستعود لمدح الحرية والديمقراطية والحوار وستشهد بلا شك انفتاحا كبيرا بعد أن عاد اسم تونس إلى الواجهة
هذه الجائزة عربية أيضا لأنها تقول هناك أمل في هذه الشعوب لتكون شعوبا متقدمة ما تشبثت بالحوار وليس بالدكتاتورية. بالثقافة وليس بالقمع والجبروت.
اليوم تونس وغداً بلد عربي آخر