عبدالرحمن الحقيل
134 صفحة - من القطع المتوسط
تحت مظلة هذا العنوان جمع راحلنا الحقيل حزمة من خواطره ومختاراته، ليست كلها شعراً، وليست كلها نثراً.. بل مزيج من شعره ونثره أشبه بسلة فاكهة.. أو طبق خضراوات (زلطه).
يعنيني من كتابه انتزاع قصائده المتناثرة بين صفحة وأخرى.. لملمة أطرافها المتناثرة واستعراضها.. وعرضها بشكل تأملي بحثاً عن مضامينها المتنوعة:
(الحقيقة) كانت أول من بحث عنها (ترى أين الحقيقة الحاضرة الغائبة)؟!
أنا ما عشت دقيقة
خلف جدران الحقيقة
لا إداري. لا أجاري
بحذلقان رقيقة..
هكذا طبَّع نفسه... وهكذا طوَّع سلوكه في حياته.. صراحة قول.. وصراحة طباع.. ثم يسأل مَن هي..
وأدوها في ظلام القبر حيَّة
وتغنوا بحياة مخملية
وتباكوا.. وتنادوا حسرة
ثم قالوا إنها لب القضية
بل بعض الحقيقة يا شاعرنا .. بعد أن ذاب اللب .. وتناثرت الأوراق في مهب الريح.. أنك لن تجد حقيقة مهما أدلجت وسعيت .. بعض حقيقة هذا إن وُفقتَ..
وبقي شبح (اللحن الحزين) قائماً يطادرنا في أول ديوانه (حبات رمل) كان القاسم المشترك الأعظم لقنواته الشعرية.. إنها أشبه بالمصب .. وتأتي بعد الجداول الحزينة ..
غردي ما شئت يا عصفورتي
ودعيني أضع اللحن الحزين
واسمعي مني حداء كله
قبس ضاع على مر السنين
من أين؟ وإلى أين؟
من ربى الصحراء صوت هامس
يتغنى بتراث الأولين
فالأولى صانوا وغنوا أرضهم
ومضينا بالأماني نستكين
ويستصرخ بعد أن ضاق بالصمت:
أين عمرو، وصلاح، وعلي؟
وأباة الضيم رمز المؤمنين
ليروا ما حلَّ في أمتنا
من ضروب القهر والهون المشين
لم يعد فينا وفي مؤمن
بتراب الأرض والنهج الأمين
غردي ما شئت يا عصفورتي
ودعيني أضع اللحن الحزين
عليه اللحن، وعلى عصفورته الغناء، ولفارس الحزن الكلمات.. ثلاثية تراجيدية صاخبة علها توقظ النيام.. وتنصب خيمة الحب، والعدل، والسلام.. تلك هي خاطرته الشعرية أو خاصرته التي أصابته بالوجع وساقته إلى اللحن الحزين.
باب طرقه شاعرنا في مجمل قصائده وما زال مفتوحاً على مصراعيه عنوانه: (خطرات لم تتم) تقول مفرداتها مقطعة الأوصال أمكن لي جمعها رغم أنها موزونة ومقفاة:
إن الشجاعة نار إن أرادت بها
أمرا فبادره إن الدهر مطفيها
ولا تؤجل ففي التأجيل منقصة
لكل ذي همة يعطي معانيها
الشجاعة أن تنتصر على ذاتك.. وعلى إحباطاتك.. وعلى ترهاتك.. وعلى خصوماتك.. أن نتملك إرادة الحياة بعزيمة دونها الهزيمة. ولأن القضية الفلسطينية ما برحت أسيرة الضعف والتخاذل تبحث عن شجاعة تعيد لأهلها ما سلب منهم. فقد تذكر القدس بهذه الأبيات المعبرة:
خلف أذناب البقر
وترانيم الغجر
وأفاعيل التتر
سرق القدس اليهود
ضيع الحقَ نيام
قد تباروا في الكلام
وتمادوا في الخصام
وتواروا في الظلام
بعد إحكام السدود..
كان هذا بالأمس.. تغيرت الصورة.. وتبدلت الملامح، واتسعت دائرة الشكوى والبلوى، العالم العربي مشغول بنفسه، يقتل بعضه بعضاً.. ويدمر بعضه بعضاً.. ناهيك عن أعداء ما وراء الحدود الذين يذكون نار الصراع والفرقة بين أفراد الشعب الواحد.. والمذهب الواحد.. عالم يتوحد.. ونحن نتفرق..
(على الدهناء) أناخ راحلته وتكلم:
على ساحة الدهناء بعد التفرق
أنخت راحلتي حيران في قلق
أنام على الذكرى وأصحو مع المنى
إلى أن دعا داعي المشيب بمفرقي
فقال: تمهل فالحياة عقيدة
ولا تيئس فالصبر ربان زورقي
للوهلة الأولى أشهد جدية الموقف والمواجهة:
فلست بمسمار ونهاز فرصة
كما فعل القيسي بابن المحلق
وما أنت بالعمري في صبواته!
وما أنت بالمجنون هاو ومعشق
ولست مع الرواح في كل محفل
تجرجر ذيل الشعر بالمتألق
غضبة مضرية أطلقها شاعرنا لمن يعنيه الأمر لا أدري من هو.. ما أدريه أن مفردة بالمتألق في شطره الأخير غير مناسبة.. المتملق.. هي الأفضل..
ولكنك الحر الأبي بفكره
تنافح عن رأي وتسعى لمنطق
رمالك يا دهناء رمز صلابة
فلا تستنيمي للظلام لتغرقي
يعود بنا شاعرنا الراحل الحقيل إلى خطراته التي لم تتم.. وما أخالها إلا كافية ووافية:
جمَّارة القيظ لطفاً إننا بشر
لا تشعلي في لهيب القلب بركانا
ترفقي بقلوب هدها سقم
تجرعت من كؤوس المر ألواناً
جمَّارة القيظ هذي شمعتي احترقت
فجففي دمعها (زوراً وبهتاناً)
تلك هي مهمة الشموع أن تضيء لتحترق.. إن شمعة دون حريق لا معنى لها.. لا حاجة إلى الشكوى وأنت تحمل في يدك شمعة تكشف الطريق المظلم.. (كونفشيهوس) فيلسوف الصين العظيم قال كلمته الخالدة:
(لا تلعنوا الظلام.. ولكن أوقدوا الشموع).
يقول في إحدى خطراته الجميلة:
تبسمت فأضاءت قلبي الدامي
وأيقظت فيَّ آهاتي وآلامي
وساورتني شكوك في تبسمها
حتى عرفتُ بأني قيد أحلامي
تلك الحياة من الحيات لحمتها
قد باعدت بين آمالي وأيامي
الشك أحياناً قاتل.. ومثله الشرك، والشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق.. خماسية سوداء نستعيذ بالله منها عند كل صلاة.
ويسترسل في بثه ونجواه:
دمعت عيناي من سحر العيون
فغدا القلب أسيراً للظنون
الإشكالية نفسها.. والعقدة نفسها.. دع عينيك حول مرفئ عيونها يُبحر.. واترك قلبك طليقاً يتحرك في فضاءات حبك.. الحب لا يحتمل الظنون.
أتراها أدركت ما حلَّ بي
فنأت عني إلى حيث تكون؟!
فلِمَ البعد أيا ملهمتي؟
فكفى القلب مآسي وشجون
سل حُذامك.. الجواب من فمها:
إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام
هكذا قال الشاعر .. لا أحد غيرها يجيب على سؤالك.. هذه المرة جاءت خطراته متفائلة.. (الأمل) عنوانه:
بقية الأمس آمال معلقة
وواقع اليوم في التأبين نقضيه
كل يغني على ليلاه في دعة
إلا الذي في لهيب النار تصليه
لئن غفونا زماننا عن تطلعنا
فسوف يأتي الذي كنا نغفيه
الصحيح (غفونا زماناً) وليس زماننا حفاظاً على إيقاع البيت من الكسر.
في ديوان (حبات رمل) الذي سبق أن قرأت وكتبت عنه غنى لنهر الدانوب.. وما كان العشق للنهر ولكن لمن على شاطئ النهر.. شاعرنا العربي القديم غنى للديار من أجل من يسكن الديار.. أليس القائل؟
أمرُّ على الديار ديار ليلى
أُقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا
ما حُبُّ الديار شغفن قلبي
ولكن حُبُّ من سكن الديارا
هو نفسه شاعرنا أفصح عن آسرته:
على صفحة الدانوب فاضت مشاعري
وجاشت بفيض عن عميق خواطري
فبتُّ أناجي النفس من هدأة الدجى
وأحدو حداء العيس من ظلم آسري
فما زلت مأسوراً وما زلت آسراً
وحتى يشق الصبحُ ليلَ معابري
أجمل ما في غنائية الأسر أنك المأسور والآسر.. المهم أن لا يكون الأسر من طرف واحد.. على أي حال أبلج صبح النهار.. توارت الصور.. ابتعد العاشق عن نهر دانوب.. عاد كل شيء إلى ذكريات تُرجع وتسترجع..
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر..
هكذا تأتي حكمة الشعر مرادفة لحكمة الحياة والموت.. حكمة اللقاء والفراق.. حكمة الحضور والغياب. لا شيء يبقى سوى أبيات شعر منثورة لملمته شتاتها...
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
هكذا الشعر.. وهكذا الشعراء إنهم في كل وادٍ يهيمون.. وإنهم يقولون ما لا يفعلون.. رحم الله شاعرنا وزميلنا الأستاذ عبدالرحمن إبراهيم الحقيل وغفر له.. رحل وترك لنا رصيداً من الشعر يتحدث عنه.
- الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338