محاولات لإثبات جماليات الحرف .. أم ملء فراغ لتسويق العمل الفني
أصبح وجود الحرف العربي في اللوحة التشكيلية مجالاً للحوارات والندوات، وأُقيمت له الأمسيات، وأُفردت له الصفحات بما يُقارب ما طرح واستعرض من دراسات في بقية العناصر أو مفردات اللوحة ومواضيع طرحها.
وقد يكون مصدر هذا الاهتمام نابعاً من جانبين: الأول.. الخوف من امتهان الحرف العربي باعتباره مرتكزاً للجملة والعبارة كما اعتاد عليه المتلقي، وخوف المعنيين به من الإخلال بقواعده وتشويهه والخروج عن معاييره الفنية وأنماطه كما هو الشعر الحر، وما لحق به من مخاوف من التعدي على الشعر المقفى، واعتباره تعدياً على أصالة الشعر، خصوصاً إذا كان من يتعامل مع الحرف من غير الخطاطين، وإنما جاء نتيجة نتاج لما طرأ على كل الفنون من تجدد وتطور يتبع كل نتاج إنساني.
لكن الأمر قد يتجاوز استلهام أو استنباط جماليات الحرف إلى حالة من الفوضى تصل إلى استهلاك وابتذال، وليس استلهاماً للحرف العربي أو يضفي عليه الخصوصية والهوية واعتباره فناً عربياً وإسلامياً، بعيداً عن الشكل وما يمكن أن يظهر به الحرف في اللوحة في الجانب التطبيقي، وإنما اعتباره مرتكزاً منطلقاً لجزء من جماليات عطاءات الفكر العربي الإسلامي، يُبنى به جسراً من التواصل مع ما يماثله من الفنون أو الفكر الغربي، على أن يجد ويجتهد مستخدم الحرف في اللوحة إلى مستوى الكمال في تشكيله للحرف في اللوحة أو المنحوتة، فهناك فرق بين الخطاط المتمسك بأصول الخط والحريص على عدم الخروج عنها وإضافة جديد، بينما الفنان التشكيلي أكثر حرية في تطويع الحرف ولا يجد حرجاً في ذلك كونه يُعد مبتكراً للتكوين الذي يستلهم فيه الحرف، بينما الخطاط يعمل في حدود القيم ومراقبة الآخرين من أمثاله المتمكنين من أدواتهم.
أما الجانب الأهم في هذا لموضوع أن جماليات الحرف العربي تنبع من مشاعر الخطاط المسلم عند تعامله في بناء العبارة من خلال النظام الذي يتبعه في تشكيل العناصر والتقيد بأسسها، وتحقق التوافق وذلك عائد لما تعلمه الخطاط من أن ما يتعامل به من تقيد بسلوكه الإسلامي ينطبق على تنفيذ العمل، ومع الكثافة لهذا التوجه فيما رأينها وتابعناه في كثير من الأعمال الفنية التي أنتجت على مدى ما يزيد على القرن في تفعيل الحرف العربي في اللوحة التشكيلية، إلا أن ضوءه بدأ يخبو في كثير من تجارب الرواد الحروفيين التشكيليين، البعض منهم خطاطون لهم شهرتهم في العالم العربي، حملوا رايته كتشكيليين فترة طوية أمثال الفنانين إسماعيل الشيخلي وضياء العزاوي من العراق والفنانين محمد حماد ومحمد غنوم من سوريا والفنان نجا مهداوي من تونس إلى آخر المنظومة مع ما مر بنا من تجارب تشكيليين سعوديين غالبتهم تنحوا وتركوه مبكراً قناعة منهم بحكم من سبقوهم أنها مرحلة معينة أدت دورها وتوقفت لعدم جدواها.
كانت تلك التجارب محاولة من الفنانين في إيجاد هوية للفن العربي مع أن التجربة قد مرت بالحروف لكل اللغات، ومارسها فنانون في كثير من دول العالم على اختلاف لغاتهم.. ومن ثم انتقلت العدوى إلى الفن لعربي الذي أسهم به أولئك الرواد بالكثير من أعمال الجميلة والملفتة للنظر إلى هذا النوع من الاستلهام والتطويع للحرف مع ما شاب هذه التجربة من آراء نقاد لا يرون في الحرف لعربي جمالاً بدون الجملة التي حقق بها الخطاطون حضوراً تاريخياً كانوا بهذا الفن من المقربين إلى الحكام وقبل ذلك إلى الخلفاء، فهناك فرق بين الإبداع في خط العبارة وما يتطلبه هذا الجانب من الالتزام بالأسس والقيم الفنية لأنواع الخط من ثلث إلى ديواني أو رقعة وغيرها، وبين التعامل مع الحرف كشكل يقوم الفنان التشكيلي بتطويعه ليحقق الهدف الجمالي من العمل الفني، وهذا ما ذهب إليه أولئك الرواد العرب.
ملء فراغ أو إضافة
جمال للعمل
ومع ذلك كله نرى استخدامات الحرف في الأعمال الفنية في الفترة الأخيرة أصبحت ظاهرة، بعد أن كانت حالات نادرة أو قليلة، فقد أخذت الحروف العربية تملأ كل جزء من اللوحات والمنحوتات، ما يطرح التساؤل هل هي قناعة بأن الحرف يُشكّل عنصراً مكملاً للعمل الفني؟، وهنا يأتي التساؤل الآخر هل الأعمال المطعَّمة بالحروف في أصلها ضعيفة في التكوين أو الفكرة يلجأ الفنانون لإكمالها بالحروف، أم أن وجود الحرف يخدم تلك الأعمال كون الحرف جزءاً منه، وعنصرا لا ينفصل عن الفكرة.
فما يشاهد من إقحام للحرف في بعض الأعمال الفنية لوحات كانت أو أعمال نحت زادها قبحاً أكثر مما أضفى عليها جمالاً نتيجة وجود الحروف بما لا ينسجم مع بقية العناصر.
الحروفية لتسويق العمل الفني
من الأمور التي قد تكون سبباً في مزج الحرف العربي في الأعمال الفنية التشكيلية سبباً أو سبيلاً للتسويق إذا أدرجت بشكل يضفي جمالاً على جمال التكوين كما نراه في أعمال الفنان محمد الثقفي ومنحوتات أو تكوينات الحرف عند الفنان نبيل نجدي وصديق واصل.. أيضاً نرى التكوين الحروفي المكمل للعمل الفني عند الفنان فهد خليف الذي قطع به شوطاً كبيراً في عقد صداقة بين عناصر لوحاته وبين الحروف إن كانت بعزف جماعي للحروف لتشكيل عبارة أو جملة أو حروف بعزف منفرد.
فمثل هذا المزج كان له أثره في تسويق الأعمال وتقريبها لوجدان المتلقي الذي يرى أن للحرف علاقة روحية وتراثية وتاريخية، خصوصا المتلقي والمقتني العربي والمسلم عامة.
تشابه.. أم تأثر.. أم تقليد؟
التشابه أمر يمكن اعتباره توارد أفكار أن تتشابه بعض العناصر في اللوحة مع فنان آخر، أما التأثر فهو الإعجاب بأسلوب لأحد الفنانين يبدأ به الفنان المبتدئ ليتحول إلى مرحلة التقليد إذا لم يخرج من عباءته، وهذا وقع فيه الكثيرون من الفنانين، فمنهم من بقي مقلداً لمن سبقه، ومنهم من حاول الخروج ونجح ورسم له خط سير مختلفاً عما يبقى مع بقاء الخبرات، وآخرون أضاعوا مشيتهم الحروفية بعد التأثر والتقليد إلى عشوائية خربشات لا تعلم أين موقع الحروفية فيها.. فلا هي أبرزت الحرف كجملة مع حرية التشكيل.. ولا أبرزت جمالياته وأبقته بكرامته، قفزات لضربات الفرشاة فيها روح الحرف دون جسده.. وأما الطامة الكبرى في التقليد الذي جعل كثيراً من الأعمال وكأنها رُسمت في مرسم جماعي لنخبة من فنانين يقومون على دراسة تكوينات الحرف في اللوحة التشكيلية، وأحياناً لا تعرف لمن هي؟.. وقد تتوقعها لفنان فيخالفك الضن.
الحرف الذي خرج من داره
يبقى أن نقول إن الحرف العربي وبهذا الاندفاع بمزجه في اللوحة قد أُخرج من داره فأصبح أقل مقداراً مما كان عليه في اللوحة الخطية التي تحمل جملة.. حديثاً.. أو آية أو حكمة بأحد أنواع الخط المعروفة تاريخياً ما زالت محمية من الخطاطين المعاصرين دون إخلال بأصوله.
- monif.art@msn.com