عرّف اللغويون التجديد
بـ جعل الشيء جديداً والإتيان بما ليس شائعاً أو مألوفاً(1)، وهناك تعريف آخر هو: ما لا عهد لك به(2)؛ هذا هو حالي مع كتابة القصة القصيرة، فقد جاءت إليّ هكذا ثائرة على الشكل المتعارف عليه، والبناء المعهود في كتابة القصة القصيرة؛ لم أرض أن أكون مقلداً خصوصاً بعد كتابة نصوصي الأولى، التي أشعرتني بأني امتداد طبيعي لأسماء سابقة ليّ، فما كان مني إلا الخروج بنصوص مختلفة، وهي المرحلة الحقيقية لبداية كتابة القصة القصيرة لدي، وأدركت بعدها أن الكتابة القصصية مرنة مطواعة تقبل التجريب والتجديد، وأن ما قيل عن تقليديتها وما رسخ في ذاكرتنا من القراءات القديمة عن شروطها الجامدة ليس صحيحاً وأنه مجاف للصواب.
إذ إن القاص المبدع الموهوب هو من يستطيع التحكم في كتابة النص القصصي من دون شروط الناقد أو الدارس المنظّر، وأن القاص - كذلك المبدع – هو من يستطيع وضع تصور متحرك متغير متطور أمام الناقد، لأن الشروط الآلية المتحكمة في الكتابة الإبداعية تكون عبثاً وعبئاً أمام المبدع، وبالتالي سينفجر ويخرج عليها بأسلوبه الخاص به.
كان لي بعد هذا المفهوم المبني على كتابات متكررة متجددة، وقراءات متنوعة متفرعة، الخروج بقصص قصيرة مغايرة للواقع، وتمثل في مجموعتي القصصية الأولى: مقاطع من حديث البنفسج التي صدرت عام 1404هـ/ 1984م، إذ أحدثت عند القراء والكتـّاب وجهات نظر متباينة مختلفة، واستطعت التأكيد على مساري والتجديد فيه في قصصي التالية، حتى آخر مجموعة صدرت لي: يمسك بيدها.. ويغني صدرت عام 1432هـ/ 2011م، تبلور هذا الاتجاه في استخدام: الجمل الاسمية القصيرة الصادمة، اللعبة الزمنية في مسيرة الحدث، الصراع اللغوي المكثف، مع استخدام اللغة السهلة الممتنعة، الوصف الحاد للشخصية، البناء الكياني الشمولي للحدث، تلبيس الجامد روحاً تحركه، وتجميد الحي وموات حركته، تبني الشخصيات الأنثوية وتلبس حالاتها، تحرك الأنثى بكل مواصفاتها وأوضاعها ومكانتها الشخصية والاجتماعية، سيطرت اللغة الشعرية بين سطور معظم القصص التي كتبتها، تجدد الموضوعات والحالات الإنسانية، الغوص في النفسية والغيبية والسيكولوجية للإنسان بكل صوره.
من هنا أؤكد أنني بكتابتي للقصة القصيرة، استطعت الاستمرار على نهج يحاول أن يبني لنفسه شخصية متفردة، ومتجددة، ومجددة في الأسلوب والطرح، والدخول لعوالم يتوق القارئ والباحث لقراءتها والاطلاع عليها.
قال الكاتب/ أحمد بادويلان عن قصصي( نجد القاص خالد أحمد اليوسف يزيد من تفاعل القارئ حين يؤزم موقفاً فيسير قصته بإيقاع سريع متوتر تارة وإيقاع خافت غامضاً تارة أخرى، حتى يستعيد القارئ أنفاسه الراكضة خلف أحداث القصة، وهذا ما يسمى بالتغير التموجي في القصة وهو ما يسمى بالإيقاع ...)(3) واستحضر الكاتب في قراءته ومقالته عدداً من نصوصي التي تعتمد على هذا الأسلوب الخفي، على الرغم من اختلاف عدد من الكتّاب مع طرحه وقراءته، بل كتب أحدهم مقالة استهزاء وسخرية به وبما قاله، وجاء الرد مثبتاً بالمراجع التي تتحدث عن هذا الموضوع.
أما الدكتور/ أحمد السعدني، فقد قال بعد قراءته لقصصي( إن خروج خالد أحمد اليوسف على إطار الشكل يعتبر محاولة منه لتجريب شكل جديد، ولقد جاءت محاولته في إطار تغيير نسب المعطيات الفنية والأداة المستعملة، وفي تشكيل لغوي للجملة يحلو لأن يكون مختلفاً، وفي استعماله للزمن النفسي لا الزمن الطولي، وفي انتقاله من الواقع إلى الوعي أو العكس عن فهم جيد لا عن تقليد، وفي استعماله للجملة واللفظة والنقاط)(4)
إلا أن الدكتور/ محمد الشنطي الذي تعمّق وحللّ بصورة مختلفة فقد قال ( أما القصة القصيرة عند خالد اليوسف فهي دوامة لا تهدأ.. يلج بك منذ اللحظة الأولى في أتون الأزمة، وصف مادي وفكري ونفسي، وتجسيم بالكلمات للحظات التوتر في عبارات قصيرة تجرد الموقف من ملابساتها المكانية والزمانية، وتحوله إلى قضية تتصارع في جوفها المشاعر والكلمات والجمل التي تختزل اختزالاً شديداً في كلمة أو كلمتين والجمل تظل أسمية وصفية حادة...) (5)
ويمضي د. الشنطي في وصف كتابتي القصصية متنقلا من قصة إلى أخرى، إلى أن يصل إلى نتيجة تثبت تميزي في مجموعتي القصصية الأولى: مقاطع من حديث البنفسج 1404هـ/ 1984م.
وبعد أن عبرت بخطوات واثقة اللبنة الأولى في عالم القصة القصيرة، التي أوجدت لي مكانة كبيرة في بناء الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية، شعرت بمسؤولية خطواتي القادمة، وهيأت فكري وقلمي من أجل إبداعي، خصوصاً أني وجدت ردود أفعال متناقضة وغير عادية في تلقي كتابتي للقصة القصيرة.
تمثلت الكتابات غير الموضوعية في لغتي القصصية، وفي الموضوعا ت والمضامين التي أطرحها، كذلك تحدث بعض من الكتّاب عن الأساليب التي أتبعها وأنتهجها، وعن التقنية وقدراتي التي تكشفت لهؤلاء الكتّاب؛ وقرأت العجب العجاب منهم، وأبرزها إلغائي وتنحيتي من عالم القصة القصيرة، لأني لم ولن أفهم الكتابة الحقيقية للقصة القصيرة، وأن ما أكتبه مجرد تهويمات ووجدانيات لا ترتقي للقصة القصيرة المثيرة المدهشة، مما بنى حائطاً صلباً في داخلي ضد النقد وممارسيه، وأعلنت رفضه وعدم الالتفات إلى المشتغلين به، لأني اقتنعت منذ البدء أن المبدع هو من يفرض نفسه وأسلوبه وكتابته على الناقد وليس العكس، وسيرضى برأيي ويُقتنع به في يوم ما!
بعدئذٍ واصلت وناضلت من أجل الاستمرار في الكتابة القصصية، ونشر المزيد من النصوص التي أظهرت فيها قدرتي على التجديد، والدخول في عوالم جديدة، مضموناً وأسلوباً وتغييراً مدهشاً، ثم إصدار مجموعتي القصصية الثانية: أزمنة الحلم الزجاجي عام 1407هـ/ 1987م، جاءت القراءات والدراسات التي تفاعلت مع طرحي مغايرة في تحليلها لقصصي؛ لهذا قال الكاتب اللبناني علي شوك بعد أن حلل المجموعة من خلال خمسة محاور هي:
1- التجريب في الشكل
2- الهموم التي ترتكز عليها الكتابة عند خالد اليوسف
3- علاقة القصة بالبيئة
4- الزمن عند خالد اليوسف
5- مدى وجود إبداع سعودي حقيقي
ومن خلال هذه العناوين خرج برؤيته عن القصة القصيرة لدي، ومن خلال نصوصي حكم بأن القصة السعودية كغيرها من القصص العربية، قال:(تؤكد المجموعة التي بين أيدينا للقاص السعودي خالد اليوسف أن هناك إبداعاً سعودياً على قدر كبير من الأهمية يتعادل فيه ومنه مع الإبداع العربي بشكل عام، ولعل هذه المجموعة والتي حصلنا عليها مصادفة تكون بداية للبحث والغوص في أعماق البيئة السعودية، بحثاً عن أدباء ومبدعين حقيقيين، قد يكون حظهم الإعلامي قليلاً، ولعل أزمنة الحلم الزجاجي تكون دافعاً حقيقياً للبحث والتنقيب للإبداع السعودي خلال السنوات الفائتة)(6)، ثم يضيف في مكان آخر كختام لهذه المقالة التي أعاد نشرها (هذا هو خالد اليوسف في مجموعته الرائعة أزمنة الحلم الزجاجي، والتي تؤكد أن معين الإبداع السعودي لا ينضب أبداً) (7).
أما الدكتور/ أحمد السعدني الذي درس المجموعة من خلال مقارنة لها ببعض أعمال ناتالي ساردت التي صدرت عام 1938م بعنوان ‘‘انفعالات‘‘، وقال في البداية: ( وخالد اليوسف ملمح واضح من ملامح القصة القصيرة في السعودية - وذلك – فيما أرى لسببين...) ثم ذكر السببين، ودخل في التحليل واستخراج نتائج المقارنة، ووصل في النهاية إلى أن قال (وبعد، فخالد اليوسف كاتب له ملامحه الفنية التي ينفرد بها بين كتاب المملكة العربية السعودية المعاصرين، وله أيضاً أدواته الفنية التي يستعملها بذكاء فني يرسخ قدمه على أرض القصة القصيرة العربية)(8)
وأدرك عدد منهم أني واقعي يستفيد من الواقع في بناء نص مختلف، أي أني لا أحاكيه أو أسايره وانقله في لقطات مباشرة كصورة منه، وإنما في مشهد لا يبتعد عنه وبطريقة ربما أحلم بها أو أتمناها أو أتخيلها، وهذا ما أختطه لقلمي القصصي؛ بل أني أعلن دوماً أني كاتب قصة قصيرة ولست مصلحاً اجتماعياً للذين يسألون عن قصصي التي تنتهي بنهايات مفتوحة، وأن النص القصصي الذي أكتبه هو حالة تخيلية اجتماعية، لا يتصل بالمشهد الاجتماعي المعاش كصورة مباشرة، وقصصي تأملية لواقع أراه أو أسمع به أو أقرا عنه.
يقول الكاتب/ محمود عوض عبدالعال (وقد اتضح أن الأديب خالد اليوسف لا يعمل في الفراغ وإنما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدوافع السيكولوجية وبمشاكل مجتمعه، حتى ولو كانت مشكل انفرادية لشخصيات لا تمثل مغزى عاماً، ولكن لماذا لا يعبر عنها ويعطيها حقها الإنساني في أعماله، ويضفي عليها وجوداً تعيشه الأجيال لم تكن تحلم به).
ويقول في مكان آخر من دراسته (إن خالد اليوسف يقول في قصصه بأن نوعاً جديداً من الإنسان يظهر الآن، وهذا الإنسان الجديد يكون أكثر وضوحاً وشفافية في كتابه الثالث ’’إليك بعض أنحائي‘‘ فقد امتلك الأديب كل أدواته الفنية، واحتوى باقتدار تجربة الإنسان على صحراء كانت ثم تحولت إلى مدن عملاقة، لم يعد حبيس العجز والتفاهة وقلة الحيلة. بل كافح في وقفته وأصبح يمتلك حلقة كبيرة من المفاتيح).
ثم يقول( لماذا كان اليوسف تعبيريا أكثر من التعبيريين أنفسهم في كتاباته القصصية؟
والحقيقة أن الكاتب يعني بكل كلمة صدرت عن أبطاله، وتأكيدي هذا ليس جزافياً، ولكن يأتي من تطوره الفني عبر كتبه الثلاثة، إنه ينتقل من التجربة إلى الكشف إلى الرسوخ...) ( 9)
لم تكن المعاناة والصدق الفني وعمق التجربة بعيدة من نصوصي القصصية منذ البدء، لأني لا أكتب النص إلا بعد تعمقه في وجداني، وتخيله في ذاكرتي، والتخطيط لمجرياته في عقلي، مما جذر تفاصيل الشخصيات التي تدور قصصي لرحاها، وتحرّك أحداث القصة التي أكتبها، وهذه من أصعب الحالات التي أمر بها وأعيش فيها، إنها أوقات التقمص والتلبس للشخصية، وهي تعني عندي الهم الكبير والانفصام العقلاني، لأني برغبتي أكون شخصية أخرى حتى أنتهي من كتابتها، وأكثرها معاناة حينما تكون الشخصية امرأة وأحداث النص كاملة عنها، فهذه ترهقني بل تفصلني عن محيطي لدرجة الابتعاد عن بيتي وأهلي حتى أنتهي منها، لكي أعود لطبيعيتي الأولى، وهي حالة أعتز بها على الرغم مما يصيبني منها من عواقب، لأن النتيجة التي ترضي القراء هي ما أسعى إليه ويسعدني.
جاءت حالات المرأة وتفاصيلها في قصصي كثيراً، والمرأة لدي هي الحبيبة العاشقة الهائمة، وهي الأم والزوجة الحنون، وهي الفتاة الصغيرة والبنت المتطلعة للحياة، وهي القصة التي لم تنته بعد في عالمي، هي قلب الحدث ومعاناته، وهي المحرض على كتابته واستمرار وجوده، وهي سر الإبداع القصصي الذي انتهجه.
من هنا جاءت قصصي وعناوينها ثم عناوين المجموعات السبع تخص المرأة بكل تفاصيلها، ودخلت كثير من نصوصي القصصية في دراسات النقاد والأكاديميين المعنيين بالمرأة كنموذج حي(10)، وتم تدريس عدد من هذه النصوص لطلاب وطالبات الجامعات السعودية؛ بل أكثر من هذا حينما قدم لي أستاذاً جامعياً ملفاً كبيراً يحتوي على البحوث التي كتبها طلبته عن بعض مجموعاتي القصصية (11).
إلا أن اللغة التي تحرك نصوصي، وتدير أحداثها وشخوصها، وتبلور مضمونها وحوارها، هي لغة تفرض نفسها، لا أستسلم لنمطية وإيقاع واحد، ولا أفرض نهجاً وأسلوباً ثابتاً في كل نصوصي القصصية، لأني بعد مجموعتي الأولى اقتنعت بالتجريب والتغيير بحسب الحالة، واللغة العربية تعين مستخدمها على الاستفادة الكاملة من كل التراكيب الجمالية، والكلمات الدائمة والمستحدثة، وهي لغة مطواعة متجددة، فاعلة راقية، تنبض جملها ومعانيها بالنص المكتوب، فتعلي من قيمته وقوة إبداعه؛ مما جعلني استفيد كثيراً من هذا التنوع في ضمائري وجملي الاسمية والفعلية، والأصوات الخفية والمستترة أو البارزة والمجلجلة، اللغة منحتني جمالا شعرياً في الوصف والحوار، والحلم والاسترخاء وفي سكينة وهدوء البطل المحرك للنص، وفي اللغة الخالية من أي إيقاع أو نغم أو كلمات إيحائية، وهي اللغة النثرية الساكنة، لهذا تم الاستشهاد بعدد من قصصي في معظم الكتب والمراجع التي درست القصة القصيرة في السعودية(12).
يتبع..
- الرياض