تقديرٌ بالغ بالنسبة لي أن أكون طرفاً في هذا التسجيل عن معجب الزهراني بالذات، لأسباب كثيرة، تتصل جميعها بفلك تركيبته العالية والخاصة جداً، بدءاً من أصالته الشخصية، وعذوبته الجبلية الجنوبية التي تقطر شجراً ومطراً، واتساعه المعرفي، وقدرته الكتابية الفائقة؛ نقداً وفكراً ونصّاً خلاّقاً، وانتهاء بالأثر الذي يتركه هذا الإنسان، أنك كلّما اقتربت منه، حكّ لهفةً روحية فيك، لتكون أجمل، وبعفويةٍ تامة، وقدح شيئاً عميقاً في قلبك وذهنك. إنه اختبارٌ فاتنٌ ودائم.
قبل عقدٍ من الزمان، كنت مرةً في الرياض، ولم أكن قد التقيت الدكتور معجب الزهراني من قبل، وخطر ببالي أن أفعل. حملت كتابي الأول «ألهتك»، وتحاملت على التردد والمهابة التي في نفسي، وذهبت إلى جامعة الملك سعود، قاصداً زيارة هذا الناقد، الذي نشأنا زمناً على تكفيره والنيل منه، ومن ذاك الجيل الذي نكّل به الصحويون الأسلاموين بأقذع التهم والفريات، على المنابر والمحاضرات وأشرطة الكاسيت؛ نقاداً وشعراء وروائيين. استقبلني معجب الزهراني في مكتبه بمنتهى اللّطف وخفّة الروح، مزيحاً كل التوتر والارتباك الذي يحمله كاتبٌ شاب يلتقي عَلَماً وأيقونةً ثقافيةً مهمة. أخذ كتابي، وتحدثنا قليلاً، ثم استأذنته ومضيت. وتجري المقادير أن ألتقيه بعدها بشهرين فقط، في فعالية ثقافية، وفي بلدٍ آخر، وفي بيت صديقٍ مشترك، وهو الشاعر والمفكر اليمني؛ محمد عبدالسلام منصور، في صنعاء، ومن ذلك اللقاء المليء بالأسئلة والحوار، نشأت صداقة عميقة ولصيقة، مع معجب الزهراني، والتي كان وما زال لها في نفسي أثراً ملهماً وحقيقياً. حدث بعد ذلك أن التقينا في الرياض، ثم في اليمن مرة أخرى، ثم جدة، ثم البحرين، ثم باريس، بل وسافرناً معاً عدة مرات. والذي وجدته وأجده دوماً، وعبر هذا القرب الممتد هذه السنين والرحلات والمدن والطرقات والبوح والكتابة، أن الدهشة والسحرية المتجددة، يوماً إثر يوم، التي تنطوي عليها نفس أبي توفيق وذهنه، كفيلة بفلْح بلادٍ بأكملها، وغسلها من التوحّش والجفاف، لتصير حقولاً وأناشيد وبشراً أسوياء. من قرأ مقارباته وتعرياته الناقدة لخطابات التوحّش بتنوّعها والتقائها، والتي أُعملت في سحل سويّة الإنسان بعموم، والمرأة بخصوص، وكذلك انهماكاته في جماليات الكتابة، والتعقّل والأنسنة، من قرأ غرامه بابن رشد وألبير كامو، ومن قرأ روايته «رقص» سيعرف ولو قليلاً؛ أيّ قلبٍ ونفسٍ حافلةً ومشويّةٍ بالأسى والحلم، بالمكابدة والكدح، مرارة الفهم والأمل!
سألته مرّةً وأنا في بيته؛ كيف تحتمل هذه المواجهات اليومية بتفاصيلها الفجّة هنا، وأنت بهذه الخزينة العارفة والذهن اليقظة، أو على الأقل، وأنت العائد، وقد جُلت بهجة الفنون والحياة في حارسة المدنيّة: باريس، كيف وأنت العائد من صرامة التعلّم في السوربون؟ فأشار بسخريةً وهمّ، إلى داخل البيت، إلى ما تبقى من المطر والشتاء الرقيق في قرية «الغرباء».. قريته.
ويا للمفارقة واللمحة الفذّة في اسم القرية، وحياة ابنها.
- عبدالله ثابت