يملك معجب الزهراني روح الفيلسوف وعقل الباحث ورؤيا الفنان، وبوسع من يعرف أبا توفيق حق المعرفة أن يدرك تمازج هذه المكونات في أبحاثه وسردياته ومقالاته وفي محاضراته أو حتى في تجاذب أطراف الحديث معه. إنه باحث بمزاج فنان وهو فنان برتبة فيلسوف. وأعتقد أن معجب لم يردد مصطلحاً من المصطلحات أكثر من ترداده لمصطلح «الحوارية» وهو ترداد ينم عن شغف بما تستبطنه الحوارية من موقف فلسفي ومعرفي تجاه الواقع الاجتماعي واللغة والذات وإبستمولوجيا العلوم الإنسانية وعلم الجمال. وكأن هذا الترداد من قبل معجب هو الصدى المتجاوب مع طبيعة تكوينه الجمالي والفلسفي والنقدي.
وإذا لم تتجل أهمية الحوارية في شيء أكثر من تجليها في العلاقة بموضوع الغيرية أو الآخرية الذي نقضت عنه تراتبيته على الذات ودونيته عنها، بقدر ما نقضت التراتبية بين المتكلم والمتلقي، فإن رسالة معجب للدكتوراة كانت قوية الصلة بذلك، إذ بحث فيها صورة الغرب في الرواية العربية. والغرب هنا هو الآخر النقيض والمضاد للذات في الرؤية التقليدية، لكن هذه الذات -كما هي كل ذات - علاقة وليست جوهراً واستقلالاً وامتلاءً، ولذلك فإن الذات من منظور الحوارية تنخرط في شبكة علاقات مع الآخر، بحيث ينتفي عن الذات التفرد المطلق ومن ثم تراتبية الآخر عليها، لأن الذات لا يمكنها أن تكتمل إلا به.
وأعتقد أن اشتباك معجب مع موضوع كهذا يحمل ما يجاوز هموم الباحث إلى هموم الفيلسوف، وهذه وتلك تجتمعان في متن الرواية الذي هو أفق جمالي أدبي بامتياز. وقد أشعر بالأسف لأن معجب لم ينشربحثه هذا ولم يترجمه للعربية، لكن ما يخفف من هذا الأسف أن معجب ظل يمتح من معين بحثه هذا ويطور رؤياه بما تفرَّق على مقاربات عديدة نالت الرواية جزءًا منها لكنها جاوزتها إلى الشعر والنقد والفولكلور وعديد من المظاهر والظواهر الثقافية.
ولم يكن إبداع معجب السردي خارج هذه الدلالة، فالسرد لا يمتلئ بالحياة إلا حين يكون غنياً بالتعدد الصوتي ومسكوناً بالحوارية. ولهذا كانت كتابة معجب للرواية دلالة متجاوبة مع موقف الحوارية الذي يتمثله على مستوى التفكير وعلى مستوى النظر. وليست روايته «رقص» التي أصدرها منذ سنوات إذا أحسنا البصر والاستكناه إلا عيِّنة من سرديات عديدة تنتظر النشر أو تنتظر الكتابة. ويخيَّل إلي أن كتابة الأكاديمي والناقد معجب للرواية وإصدارها ليس مفاجئاً لمن يحسن الإصغاء لحديثه خصوصاً من أصدقائه وزملائه حين تأخذ شجون الحديث مداها محفوفة بدهشة الزمن المتحوِّل والذكريات الشجية.
وحديث معجب عادة لا يسير على «قارعة» واحدة والقارعة هنا اسم على سبيل الاستعارة في لهجة أهلنا في الباحة لطرق نظم قصائد الإنشاد وأصوات غنائها. فهو يخرج من موضوع إلى آخر ينشد حيناً أبياتاً من الشعر الجاهلي أو العباسي فتتداعى به إلى إحدى قصائد الزرقوي أو ابن ثامرة. ويتحدث عن قاسم حداد ثم لا تلبث أن تجد نفسك معلَّقاً في ترداد صوت آسر من «المسحباني» للغويد أو ابن مصلح، ولكنه سيقطع شرودك في قبضة أشجان الغناء، بتعليقه على خبر صحفي عن فساد في إدارة ما أو بملحوظة عن واقع التعليم، وبين هذا وهذا وذاك لن يكف انهمار الكلام وشجونه عن الورود في موارد الفلسفة والتاريخ، أو عن مجادلة مقولة لعبد الله العروي، وأخرى للشيخ محمد عبده، أو لحمزة شحاتة، أو لنيتشه... الخ. وتلوح -إعادةً أو ابتداء- في ثنايا ذلك أطيافُ حادثة أو أخرى لطفل حاسر الرأس كان يبيع الرمان والطماطم للعابرين على الطريق!
وتتجلى شخصية معجب لمن يكون رفيقاً له في السفر بأوضح دلالة، فهو لا يستكين للدعة ولا يميل إلى تزجية الوقت في الجلوس أو النوم أو التسكع الفارغ. وقد تنبهت لهذه الميزة الجميلة، أول ما تنبهت إليها، في مرافقتي مرة لمعجب إلى جدة لحضور إحدى المناسبات الأدبية. فقد فوجئت به في الصباح الباكر يتصل علي بدعابته وإشراقة كلماته، وكان يستفسر عن رغبتي في النزول معه لتناول الإفطار ثم صحبته في مشوار جميل، فأجبته إلى ذلك. وبعد تناولنا الإفطار خرجنا معاً إلى جدة القديمة. وهي جدة التي أعرفها وأحبُّها كما أحبُّ مثلها من الأماكن التي تدَّخر روح المدن وعبق ذاكرتها قبل اندياح الأشكال المتشابهة حديثاً من التخطيط والمعمار!
ويا للروعة! كيف تجلت تلك المدينة العتيقة لنا في ذلك الصباح النادر! كانت جديدة لي وكأني أدخلها للمرة الأولى. ولم يكن ذلك ليحدث لولا رفيقي في التجوال والتأمل والأشجان! النظرة المتيقظة بشدة لهذه المشربية أو هذا الباب المنقوش، واليد التي تمتد لتلمس هذا الجدار المتشقق، والصوت الذي فقد حدته فكان أقرب إلى غناء حزين!وحين مر بنا أحد المارة هرع إليه معجب بلهفة ليسأله عن فندق كان قريباً من هذا البيت العريق، فتوقف الرجل ليتأمل وجهَيْنا ويقول: الله... زماااان! هذا الفندق تم هدمه وقامت في مكانه العمار ة تلك التي تتكاثر الأطباق اللاقطة من سطحها وشرفاتها! قال معجب كنت أسكن في هذا الفندق أنا وزوجتي في التسعينيات (الهجرية) كلما مررنا بجدة! ومضى بنا التجوال لأكتشف من أسئلته ونظراته وأحاسيسه حسّاً آخر بالمكان حتى لكأن لمساته ونظراته تجعل المكان حياً ناطقاً نتحسَّس دفئه ونجسُّ نبض عروقه ونستنطقه ونتحادث معه!
ولعل هذا يقودنا إلى علاقة معجب بالجمال، فقد درَّس «علم الجمال» سنوات عديدة في الجامعة، وإذا تكرر سماعنا لمعجب أو قراءتنا له وهو يقول «كنت أقول لطلابي وطالباتي في علم الجمال...» أو ما يشبهها من العبارات، فإن «علم الجمال» في الجامعة لم يكد يرتبط باسم أحد من الزملاء مثلما ارتبط بمعجب. وهنا نلمس ذلك التجاوب الذي تحدثنا عنه أعلاه، فالجمال قضية فلسفية بقدر ما هو فعل إنشاء فني أدبي، وهو إلى هذا وذاك رهافة إحساس وذوقية تكوين ونفاذ بصيرة. ولهذا لم تكن علاقة معجب بالتدريس لعلم الجمال علاقة عادية تتساوى مع تدريسه لأي مقرر جامعي، بل كانت علاقة شغف بهذا العلم وتجاوب عقلي ووجداني مع أسئلته وإحاطة معرفية به. وربما نجد في حياة معجب وسلوكه واختياراته الشخصية المختلفة ما يدلل على عمق العلاقة بالجمال بأوضح دلالة. فقنواته التلفزيونية المفضَّلة -مثلاً- خليقة بتأكيد هذه الدلالة، ولذلك فلا تسأل معجب عما تتناقله القنوات من أخبار الحروب والدمار والمذابح، فهو -غالباً- ليس متابعاً جيداً للأخبار!
وقد تبدو لدى معجب طبيعة شخصية وأخلاقية أكثر حفاوة بالشعبي والفطري، فمعجب رجل قروي إلى الصميم، وبدوي إلى النخاع. وليست دلالة هذه الطبيعة مقصورة على تحدُّره من قرية ريفية نائية ومغالبته الحياة في زمن التعب القروي الفادح، ولا في ما يُسِرُّه ويعلنه من محبة البَر والريف والطبيعة وشغف بمخالطة البسطاء وتمثُّل حياتهم. فمعجب فوق هذا وذاك رجل كريم بأدق معنى للكرم وأصدقه، ورجل شجاع بأدق معنى للشجاعة وأصدقه. وكرمه وشجاعته يتمازجان مع حسه الجمالي والإنساني والأخلاقي العالي. ولذلك فإن معجب عفيف اللسان نقي السريرة، وهاتان خصلتان لا يتصف بهما الجبان ولا البخيل، وهما إلى ذلك –كالكرم والشجاعة- دلالة مضاعفة على الامتياز الشعبي والطبيعي والفطري.
غادر معجب، بإحالته إلى التقاعد، الجامعة بعد أكثر من أربعين عاماً من الدراسة فيها ثم العمل والترقي إلى أن بلغ درجة الأستاذية. فلم ترف له -ولأمثاله- عين الجامعة، ولا الكلية أو القسم اللذين انتسب إليهما. ولم يَشْرُف قسمنا بإقامة حفلة تكريم رسمي له ولزملائه -وهم الجيل الثاني من أجيال القسم - الذين نشهد بألم مغادرتهم إلى التقاعد واحداً إثر آخر. وأتمنى أن يجد قسمنا وكليتنا وجامعتنا القدوة في ما تفعله مدارس التعليم العام ومعظم الوزارات والإدارات الحكومية التي تحيل مناسبة التقاعد لزملائهم إلى حفلة للمحبة والبهجة وتبادل أنبل المشاعر وأكثرها سمواً. وحين أذكر الجامعة هنا، فإنني سأتذكر - أيضاً- أنها لم تفد من مثل معجب بالحجم الذي يؤهِّل له امتياز تكوينه وقدراته وحسه الطموح. لكن ذلك -بالطبع- لم يغض من شأنه، فاسمه علامة مسجلة برسم النبوغ والعصامية.