قلت في الموضوع السابق إن «مشكلة اليمن» التي قصمت ظهر البعير، جاءت بعد تدهور سياسي وعروبي في المنطقة وتمزق في مفاصل الأمة العربية في العراق وسوريا وليبيا، وغياب كليّ لقيمة العروبة وتأثيرها حتى على مستوى» الظاهرة الصوتية»، فأصبحت «العروبة» بيتاً شعرياً يمر بجوارنا على استحياء لا نكاد نراه، أو طرفة يتهكم بها الموجوعون في ليل العرب الذي يمتلئ بالموبقات السبع، أو وسماً باكياً يعتلي بيوتاً مهدمة في فلسطين المحتلة
وجثث أطفال قتلى في سوريا.
أصبحت العروبة الحلقة الأضعف في هوية المواطن العربي الناضج، وتلاشى مضمونها وقيمتها في هوية المواطن العربي من الشباب.
وزادت الفجوة بين العربي وقيمة عروبته مع التدخل السافر لإيران في دول المنطقة، سفوراً أسقط الحياء من وجه أحد زعمائها، وهو يقول على مرأى ومسمع من العرب أنهم أصبحوا يملكون السيطرة على أربع دول هي: لبنان
وسوريا والعراق واليمن، أربع دول كانت «رمزاً للعروبة العظيمة» خرج من جنباتها أعظم شعراء العروبة، وها هي اليوم على وشك أن تصبح «رمزاً للفارسية الجديدة».
ولا شك أن قول ذلك الزعيم الإيراني أقامه الخطاب الإيراني وفق الخريطة الوصفية للمنطقة بعد ثورات الربيع العربي التي أفسدها طمع الطامعين، وتهديدات الحركات المتطرفة لدول المنطقة والتي صرفت هذه الدول عن الشأن العام العربي وركّزت جهودها في شأنها الخاص، وهذا الصرف العام بالتركيز الخاص استغلته إيران بتربية وتضخيم ميليشياتها في اليمن.
وكذلك تعنت إسرائيل وتحدي العرب في الاستمرار في التوسع في بناء المستوطنات والعرب وجامعة الدول العربية التي كفر بها أغلب العرب تندد وتشجب في صوت هو للصمت أقرب من العلو، إضافة إلى ذلك الغياب الكلي لرمزية «الدولة القائدة للبطولة» في المنطقة وبخاصة بعد أن تقاعدت مصر عن القيادة في زمن حسني مبارك وسقطت في الفوضى بعد ثورتها على الظلم، مع الإضافة المعنوية لزيادة رقعة الخلافات العربية العربية.
مما أفقد الشعوب العربية الأمل في أي يقظة عربية، أو عودة صحيحة «للعروبة العظيمة» أو خروج دولة عربية تعيد روح البطولة إلى العروبة والوحدة العربية.
حتى إيران نفسها عندما راهنت على استعمار اليمن في ضوء النهار متحدية العرب، راهنت في ضوء حالة العرب المنكسرة؛ ظانة أن الطارئ يغلب الأصل، وهو ظن السوء وحاصل جهل إيران بطبيعة الشخصية العربية التي تصبر على كل شيء إلا الضيم وإن حلمها كغضبها؛ حلم يوسع الأفق وغضب يحرقها.
إن الظروف مهما بلغت صعوبتها لا يمكن أن تُغير الأصل قد ينحرف لكن الأصل غالب.
ولعل هذه الفكرة هي التي تقف مأزقاً بين علاقة السنّة والشيعة في المنطقة، فالسنّة ينظرون إلى الشيعة وفق المعيار الوصفي»العروبي» فهم في نظر أغلب السنّة لا ينتمون إلى «مضمون العروبة» وإن انتماءهم لمحل مواطنتهم هو انتماء قطريّ وليس عروبياً.
وإن انحراف الشيعة عن أصل انتمائهم للمرشد الشيعي الأكبر المتمثل في إيران بانتماء بديل لوطنياتهم القطرية، هو انحراف مؤقت تقتضيه سلامتهم، لكن عندما تكون هناك معركة بين الحكومات السنية وإيران يعود ذلك الأصل أدراجه الأولى.
وسواءً كان هذا الادعاء فاسداً أو صحيحاً، فلا يمكن إنكاره على المطلق أو القبول به على المطلق؛ فالرهان على وصف كلي وتقرير نهائي يخالف الموضوعية، إذ لا يُمكن توثيق صفة أو تقرير إلا بعد وقوع حدث لضمان حقيقة البرهان وموضوعية مضمونه.
فالشيعة العرب في دول الخليج مثلاً، وهنا أركز على دول الخليج لأن إيران ترى أن هذه الدول هي الجزء التائه من مملكتها وحلمها «بالفارسية الجديدة».
أقول إن الشيعة العرب في دول الخليج هم ورقة رابحة لإيران تسعى إيران من خلالها إلى مقاربة قوة الكيف بقوة الكم؛ فالعرب السنّة أكثر عدداً من الشيعة سواء العرب أو الإيرانيين، إضافة إلى أن طبيعة تفكير العرب السنّة في تجريد الشيعة من قيمة العروبة نظراً لانتمائهم العقدي المرتبط بمرجع فارسي، وهو ما استغلته إيران بعد ذلك في تجييش الميليشيات الشيعية.
وهذه معضلة في ذاتها؛ أقصد البحث عن تكافؤ نوعي بين قوة العدد وقوة الكيف، معضلة أدركتها إيران منذ البداية الأولى بعد نجاح الثورة الدينية في إيران، ولذا سعت منذ تلك البدايات أن تُوجد مَعوّضاً يُوازن بين القوة الكمية للعرب السنّة والشيعة في غياب التكافؤ الكمي بينهما.
وتحقيق ذلك المعوّض تم تفعيله عن طريق ربط عقيدة الشيعي العربي بولاية الفقيه التي سنّها الخميني ليضمن التحكم في الشيعة العرب، وتلك العقيدة تقوم على مركزية ربط صحة معتقد الشيعي بانتمائه المباشر لمقام ولاية الفقيه في إيران، وتنفيذ تعاليمه، أما وطنيته بموجب المحل فهو مُلزم بالإخلاص لها ما دامت تتوافق مع المصلحة العامة للعقيدة الشيعية في إيران، ومتى ما تعارضت تلك المواطنة مع العقيدة الشيعية، فالإخلاص أولى لأصل العقيدة الشيعية المتمثلة في إيران.
لقد راهنت إيران في اليمن على الجواد الخاسر؛ لأن «اليمن» ليست العراق ولا سوريا ولا لبنان.
فاليمن ليست جغرافيا تجاور دول الخليج إنما هي «أصل التاريخ العربي» و «مصدر عروبته» مرتبط بها كل وجدان تاريخي لكل عربي، هذا ما لم تدركه إيران.
لم تدرك أن العرب لن تسمح لإيران أن تعبث بأصلها التاريخي من خلال شرذمة من الميليشيات، وأغفلت جهلاً إن ما زالت «لقيمة العروبة» طاقة تحرق الأخضر واليابس، مجرد أن تشعر تلك القيمة بخطر الاندثار.
راهنت إيران على «العروبة المرتزقة» في اليمن كما في العراق ولبنان وسوريا، لتكتشف أن «العروبة» في اليمن هي «عروبة أصيلة «لم تلوّث بعصرية زائفة، وأن عقيدة المواطن اليمني ما زالت صافية كأنهار اليمن السعيد ونقية كشمسها الدافئة قوية الانتماء لعروبة العرب، لن تقبل أن تلوث عروبتها الأصيلة بفارسية همجية.
ثم جاءت عاصفة الحزم، التي اعتبرتها إيران جهلاً تدخلاً في شؤون اليمن؛ لأن مثلها لا يدرك أن هذه البقعة الجغرافيا هي ملك لكل عروبي في كل مكان فهي ذاكرة تاريخه ومدونة نسبه والتخلي عنها هو تخلٍ عن تاريخ العرب وأشجار أنسابه.
جاءت عاصفة الحزم فهب الوجدان العربي ملتحماً معها، لأنها أعادت «الحياة «لمفهوم «العروبة العظيمة» التي ظن الجميع أنها هُلكت مع مآسي الوطن العربي، ليقف لأول مرة المواطن العربي بعد سنوات طوال عجاف رافعاً رأسه معتزاً «بعروبته الجديدة».
جاءت عاصفة الحزم والوطن العربي والمواطن العربي يبحثان عن «رمز عروبي للبطولة» فالتف الجميع حول السعودية التي تقود «عاصفة الحزم» إنها «عودة الروح» لمفهوم «العروبة القائدة» عودة الروح لدلالتي القوة والبطولة» إلى «الراعي العربي» بدلاً من الغربي أو الأمريكي أو الإيراني، أصبح العرب هم من يصنعون الفعل بدلاً من التحرك المسحوب كردة فعل.
لقد أصبحت عاصفة الحزم فاصلة حيوية في تاريخ العرب، فالعروبة قبل عاصفة الحزم ليست هي العروبة بعدها، فقد أصبحت العروبة الجديدة موازين قوى تُدار بها الحسابات، وهذه الرؤية الجديدة ليست قاصرة على العرب أنفسهم إنما شملت العالم.
فالعالم الذي كانت رؤيته للعرب لا تتجاوز كونهم «مفرخة للإرهاب والجهل والتخلف والضعف والتفرق».
ها هو اليوم في ضوء عاصفة الحزم يرى أمة لم يرها من قبل، أمة قوية في رأيها وقرارها وجيشها.
ولذا لا نندهش عندما يتمّ اختيار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - صانع عاصفة الحزم وقائدها من أقوى مجلات الاستطلاع «تايمز» الأمريكية، في قائمة «أكثر القادة تأثيراً في العالم».
إن القوة هي التي تصنع تأثيرك في العالم.
- جدة