(أ)
لكلّ حربٍ إعلامُها، فمن الحروب ما هو متوقّعٌ فيأتي الإعلام جزءاً من عملية متكاملة في تنسيق ينشر الهدف الأساس من وراء الحرب ويعكس إستراتيجيّة القيادة، ومنها ما يكون بغتةً على العدو والمراقبين والكتّاب السياسيين؛ والضربات الجويّة لقوّات التحالف التي تقودها السعودية فاجأت دولاً إقليميّة ودوليّة، كذلك وجد الكُتّاب أنفسهم أمام حرب حازمة في قرارها وحاسمة في أهدافها، وهم على تنوّع مراجعهم واختلاف مناهلهم مطالبون باستيعاب الموقف الوطني واستيعاب تفاصيله الواقعيّة الدقيقة وعدم الزجّ بالموقف إلى خارج إطار الأجندة الرسميّة، لبناء دعمٍ إعلاميّ خلف القيادة لنشر الاستيعاب الشعبي إلى جانب الحقوق وحماية الحدود؛ وأن يتحوّل الإعلام إلى حال الهجوم في الكشف عن ثغرات في صفوف الطرف الآخر، واستغلال خلو أجندة الخصوم من أسباب ماديّة واقعيّة، وتوسعة ما في خطابهم من ثغرات قد تعجّل في انهيار صفوفهم وإبطال مفعول حربهم الإعلاميّة. بينما ما يحدث: أنّ الحال العسكريّة تقوم بالضربات الجويّة والحال الإعلاميّة تمارس الدفاع عن النفس، في سياقات تبريريّة لا تتّفق مع الأجندة الرسميّة.
والملاحظ، الذي استدعى كتابة هذا الموضوع ونشره: يتمثّل في (أ) غياب تمسّك الإعلام بالأجندة الرسميّة، (ب) وإشاعة خطاب تفلت منه عنصريّة ضدّ عرق أو طائفيّة ضدّ مذهب، وهو ما يسعى إليه الخصوم في حربهم الإعلاميّة لإيقاع السعودية فيه وإبعادها عن خطابها السياسيّ الواقعي، التي تتميّز به في إدارة الملفات الخارجيّة.
كانت القيادة وما زالت منذ بدء الضربات الجويّة واضحة في الأسباب والأهداف، وقد أوجزها وزير الخارجيّة الأمير سعود الفيصل: (أن التدخّل العسكري في اليمن جاء استجابة للحكومة الشرعية، وأنّ أمن اليمن من أمن المملكة والخليج)، بينما يقف الإعلام السعودي بأكثريّة كتّاب الرأي والمحررين السياسيّين في تناول الحرب على أنّها ضدّ إيران، بل، والأدهي أنها صراع سنّي شيعي، وشتّان بين حربٍ ضدّ مليشيا في اليمن تدعمها إيران، وأخرى ضدّ إيران، وهي التي نفاها الأمير سعود الفيصل:(أنّ المملكة ليست في حربٍ ضدّ إيران).
(ب)
لقد تميّز (الإعلام السعودي الرسمي) بالهدوء وبلغةٍ كانت في محطات كثيرة محلّ تساؤل: (ما آخر هذا الصبر؟)، لكنّه كان يتحلّى بعدم نزوله عند مستوى خصومه في التجاوزات والتلفيقات، ولا يخوض فيما يخوضون فيه من انتقاداتٍ ضدّ سياساتنا الداخلية أو الخارجية، حتّى بدأت (عاصفة الحزم) فرأيت إعلاماً (على قلّته) يدرك الأجندة الرسميّة ويلتزم بها في وحدة داعمة، ورأيت إعلاماً (لا يستهان به) ينفلت في لغة تحريضيّة لها تأثيرات داخليّة، ويختلق أسباباً للحرب تتعارض مع الأسباب المعلنة رسمياً، وإن كان جواز اختلاق الحقائق في زمن الحرب ضرورة من أدوات الحرب لكنّه يتمّ تحت مظلّة التنسيق مع القيادة ولا يخرج عن إستراتيجيّتها في إدارة الصراع، بوصف الحقيقة صناعة إعلام في إحدى دلالاتها الأكثر شيوعاً وتأثيراً، لكنّ الحقيقة المراد اختلاقها وشيوعها يشترط أن تكون مؤثّرة في زعزعة الخصم وصفوفه، وداعمة وذات منفعة ومكمّلة للرؤية الرسميّة والوحدة السياسيّة، فلا تُحدث تعارضاً قد يتمّ استغلاله بين مكوّنات الدولة.
وأخشى أنّ هذه اللغة المتنامية حديثاً في الإعلام عبر بعض القنوات والصحف متأثّرة بلغة الفوضى التي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي منذ سنوات، فبينما كانت الحكومة تعمل على محاصرة هذه اللغة الشتائمية أو التكفيريّة أو الاتّهاميّة أو التخوينية، وكنّا نحسبها قد أُلجمت عبر تشريعات داخليّة، فإذ بها تستغلّ الظرف وتعاود الظهور والانفلات، حتّى اختلطت أجندات عدّة، وطغت لغة وخطاب عبر أقلام وصحف كانت تأخذ موقفاً من هذه اللغة والخطاب، فهذه جريدة تجيز نشر مقال يتهجّم على لبنان دولةً وشعباً، ولا يفرّق بين خصومنا وبين حلفائنا، وهذا يردّ العلاقة بين حزب الله وإيران إلى جذور تاريخيّة بين الدولة الصفويّة وجبل عامل في لبنان!!.. وهذا أكاديميّ يستمرّ في الانجرار إلى إثبات أنّ كلّ ما يحدث في المنطقة إنّما (هو صراع مذاهب) فلا يرى المصالح والنفوذ ويصرّ على تحويل الصراع من سياسي إلى طائفي - حتّى وإن بدا أنّ إيران مسؤولةٌ عن تصدير الخطاب الطائفي وإشاعة الفتنة - فعلى الرغم من تحريضها على أمل استغلال أتباع المذهب في دول عربيّة عدّة لتبرير أطماعها التوسّعية أو تحصين مشاريعها الداخلية عبر إشغال وإضعاف الدول المجاورة، لكن هذا كلّه، لا يجعلنا نتورّط بخطاب طائفي، هو مرفوضٌ رسميّاً، فكيف ولماذا يطغى في كتابات الصحف المحليّة؟!
(ج)
إلى أين يأخذنا انفلات هذا النوع من الإعلام من عقاله؟ فلدينا من الأسباب المادية الواقعية ما يُؤهّلنا لندافع عن مصالحنا دون أوهام التبرير الطائفية والعنصرية؛ كيف ونحن دولة تقوم مكوّناتها على مواطنة سعودية متعددة المذاهب والأعراق؛ فأين هو الميزان الداخلي، الذي يضع السلم الأهلي نصب عينيه أمام كلّ كلمة يكتبها ويحتمل أن تؤخذ أو تؤوّل على أنّها (عنصريّة أو طائفيّة)، وإلى أيّ مدى يمكن أن يستغلّ التطرّفُ الظرفَ لإشعال الفتنة!؟
هناك أسباب شرعية معلنة للحرب، ولا ينبغي للإعلام المساند أن يتجاوزها: (1- طلب الحكومة اليمنيّة الشرعية في مساندتها ضد الانقلاب.. 2- سقوط دولة مجاورة حدودياً بيد مليشيا مسلّحة، وهو ما يمنحك الحقّ بالدفاع عن حدودك وحمايتها من التسلل.. ثمّ، لكَ أن ترى ما بعدها، فما يمكن اعتباره إكمالاً لمشروع عودة النظام إلى المنطقة، الذي بدأ بدعم الاستقرار المصريّ، ويستمرّ الآن في مرحلة أخرى للإطاحة بحالة الفوضى التي وقعت فيها المنطقة منذ سقوط بغداد، ثمّ وقائع الربيع العربي وانحرافاته عن مساره النشوئي، بعد أنّ حوّله اليمين - السياسي إلى فوضى الهدم والدم والقتل.
(د)
حربُ إعادة الشرعيّة ليست ضد إيران، كما هو معلنٌ؛ وعلى الإعلام القافز فوق الأجندة الرسميّة أن يضع تعارض مصالحنا الخارجية مع إيران في إطار واقعي وسياسي، أمّا حشر التعارض في سياق تاريخي (كالذي يأخذنا ويردّنا إلى بداية نشوء الدولة الصفويّة)، أو سياق عنصريّ: (كالذي يردنا إلى التفاخر العرقي والتنابذ بين فارس والعرب) أو سياق مذهبي: (كالذي يتصوّر أن تعدّد المذاهب الفقهيّة يمكن أن يكون سبباً في الصراع)، فكلّ هذه السياقات الثلاثة التي يتورّط بها - تحديداً - الذين يركّزون على إيران لا بوصفها دولة ذات أجندة متعارضة ومتباينة مع سياستنا ومصالحنا، بل على أساس أنّها دولة ذات عرق ومذهب مختلفين، ويتناسون القضية الأساس: الحدود السعودية وأمنها وحمايتها، واليمن وأمنه ووحدته وسلامة مواطنيه؛ فأيّ خطاب يريد أن يدعم أهداف الحرب ويقفز عن الأسباب الواقعيّة التي أعلنتها الدولة وينبش في التاريخ فإنّه يفتح باباً يؤثّر على التعايش، وهو بذلك لا يشارك في تمثيل (حزم) الأجندة الرسميّة وأهدافها كما يتصوّر أو كما يجب أن يعي.
(ه)
إيران اسمها إيران، ليست مجوساً وليست صفويّة، والصراع معها الآن، ليس لأنّها كانت فارسيّة أو كانت مجوسيّة أو صفويّة، إنّما الصراع على علّة في إدارة العلاقات الخارجيّة وعدم حسن الجوار وتعارض المصالح؛ فأين بهؤلاء الذين يتصوّرن أوهاماً كأسباب للصراع ويتغافلون عن الأسباب الماديّة، أين هؤلاء وخطابهم إنّ كانت إيران أو صارت ترعى مصالح - السعوديّة ودول الخليج؟ أو ما موقفهم واستناداتهم التاريخيّة إذا حدث تقارب سعودي -إيراني؟ فهل يقدرون على تغيير أسبابهم وهي جامدة وتجمّد أيّ تعارض في عداء دائم!؟
نعم، الصراع على المصالح قائمٌ، ونحن نثق بحنكة وحكمة الدبلوماسيّة السعودية في حلّ هذا التعارض والتناقض على طاولات المفاوضات وتجنّب الدخول في مواجهة، ولكنّ من الخطر والجهل تبرير وجود المصالح باختلاف العرقين أو اختلاف المذهبين. ما علاقة هذه اللغة بالواقع؟
إذا أراد خصومنا أن ندخل في نفق الطائفية ليستغلوا طبيعة المواطنة السعودية المتعدّدة، فذلك لا يعني أن نتورّط بخطابهم، ونترك خطابنا الواقعي الذي ترسمه القيادة وتمضي به في إعادة النظام إلى هذه المنطقة، التي عبثت بها الفوضى؛ والويل: أنّ بعض الإعلام اليوم، وأخشى أن يطغى، وقع فريسة هذه الفوضى.
**
حمى اللهُ البلاد: قيادةً وحكومةً وجيشاً ومواطنين؛ ولعلّه حين يُنشر هذا الموضوع تكون العمليّة العسكريّة قد حقّقت أهدافها، واستجاب الأفرقاء في اليمن إلى طاولة الحوار.
- جدة