هل يختفي وراء شكل أو رسم الحروف العربية المعاصر نظام محكم فريد للكتابة الدلالية (القياسية) اللسانية، وهل يمكن تطوير أو تفسير نظام رسم حروف اللغة العربية للكشف عن قدرات دلالية جديدة لرسم الحرف العربي؟
طرحت هذا السؤال في المقالة السابقة، وللإجابة عليه سأستخدم حرف لام (ل)، وهو من الحروف المقطعة الأربعة عشر التي وردت في فواتح بعض سور القرآن الكريم، كمثال قد يقودنا إلى الإجابة الصحيحة.
ورد عن حرف لام في معجم محيط المحيط ما يلي:
« اللام هي الحرف الثالث والعشرون من حروف المباني، وهي في العبرانية (لامد) وفي السريانية (لوماد) ومعناه مهمزة وهي عصا في رأسها حديدة ينخس بها الحمار لأن صورته في الفينيقية تشبه المهمزة...».
قد تكون تسمية هذا الحرف جاءت في اللغة العبرانية والسريانية والفينيقية بتشبيهه بالمهمزة، ولكننا إذا استخدمنا القاعدة اللسانية التي تقول إن كل حرف من حروف اللسان العربي ما هو إلا حرف نون (ن) بدلالة تحتية أو جانبية إضافية، فإننا نستطيع أن نلاحظ من ناحية شكلية بحتة أن حرف لام (ل) هو ببساطة مكون من (وصل/ اتصال) رسم حرف ألف (ا) برسم حرف نون (ن)، وحرف نون كما ذكرت سابقاً هو العلامة اللسانية المرجعية القياسية التي تنطلق منها بقية حروف اللسان العربي، ومن عملية الوصل هذه يمكن أن نستنبط أن الدلالة القياسية للحرف لام تدور حول (وصل أو اتصال) شيء بشيء لجمعهما في شيء واحد وهي دلالة شكلية تم استنباطها من (اتصال) رسمي (ا) و (ن) مع حذف نقطة حرف نون.
إن تطور رسم حرف (لام) منذ الفينيقية إلى اللاتينية حيث أصبح يكتب حرف لام هكذا (L) في اللاتينية وينطق (إل) يظهر بجلاء كمال اللسان العربي المبين حيث يأخذ حرف لام كامل التسمية في اللسان العربي بثلاثة أصوات بينة صريحة هي (ل، ا، م) بخلاف اسم الحرف في صورته اللاتينية بصوتين فقط، وبخلاف أيضاً تسميته القديمة (لامد، لوماد) حيث الزيادة في الأصوات، مما يؤكد على أن اللسان العربي المبين هو مستقبل اللغات كلها حيث كمال رسم الحرف وكمال تسمية الحرف العربي بثلاثة أصوات وهي القاعدة المطردة التي تنطبق على جميع الحروف العربية الثمانية والعشرين.
إذن اللام (تَلُم) رسم حرف (ا) إلى رسم حرف (ن) في كينونة جديدة وهي رسم حرف (ل)، أي أن هذا الحرف أخذ تسميته من طبيعة ووظيفة فعله في وصل رسم برسم أو شيء بشيء (لجمعهما) في رسم جديد أو كينونة جديدة بهوية لسانية جديدة واحدة.
ورد في لسان العرب عن الفعل يلم: «اللَّمُّ: الجمع الكثير الشديد.
واللَّمُّ: مصدر لَمَّ الشيء يَلُمُّه لَمّاً جمعه وأصلحه.
ولَمَّ اللهُ شَعَثَه يَلُمُّه لَمّاً: جمعَ ما تفرّق من أُموره وأَصلحه.
وفي الدعاء: لَمَّ اللهُ شعثَك أي جمع اللهُ لك ما يُذْهب شعثك؛ قال ابن سيده: أي جمعَ مُتَفَرِّقَك وقارَبَ بين شَتِيت أَمرِك.
وفي الحديث: اللهمِّ الْمُمْ شَعَثَنا، وفي حديث آخر: وتَلُمّ بها شَعَثي؛ هو من اللَّمّ الجمع أَي اجمع ما تَشَتَّتَ من أَمْرِنا.
ورجُل مِلَمٌّ: يَلُمُّ القوم أي يجمعهم».
وجمع الأشياء المتفرقة لا يكون إلا (بوصل) بعضها ببعض وهذه هي الدلالة القياسية لحرف لام التي ترتبط أيضاً بتسميته.
وإذا أخذنا حرف لام (ل) كعلامة لسانية قياسية فإن الدال لهذه العلامة هو رسم الحرف والمدلول هو العلاقة الشكلية المحكمة وليست علاقة اعتباطية عشوائية، وهذه العلاقة الشكلية البنائية المحكمة بين الدال والمدلول في العلامة اللسانية القياسية هي ما يجعل اللسان العربي لساناً مبيناً محكماً من الناحية البنائية، بعكس الدلالة التي وردت في اللغات الأخرى المذكورة في مقدمة المقالة التي تدور حول معنى المهمزة، وهي عصا في رأسها حديدة ينخس بها الحمار.
إن الدلالة القياسية اللسانية لحرف لام تظهر بوضوح في مفردتين لهما مكانة عظيمة في دراسة اللغة وهما مفردة (كلمة) ومفردة (جملة)، ولو استعرضنا معنى مفردة (كلمة) فإن الكلمة لا تكون كلمة إلا إذا تم (وصل/اتصال) حرف بحرف وجمعهما لتكوين الكلمة الواحدة، ولو سقط حرف لام من مفردة (كلمة) لتكون (كمة) لسقط معنى مفردة كلمة، ولو أخذنا مفردة (جملة) فإن الجملة لا تكون جملة إلا إذا تم وصل كلمة بكلمة لتكوين جملة واحدة، ولو سقط حرف لام من مفردة (جملة) لتكون (جمة) لسقط معنى مفردة جملة.
إن عملية وصل شيء بشيء لجمعهما في شيء واحد جديد ليست مجرد عملية لسانية فقط؛ بل هي من العمليات الكونية التكوينية الأساسية بمعنى أن عملية وصل الأشياء بعضها ببعض فيما ينتج واقعاً واحداً جديداً هي ظاهرة علمية كونية نراها في علوم كثيرة منها علم الفيزياء وعلم الكيمياء، وهذا ما يكسب دلالة حرف لام صبغة كونية تنقل حرف لام إلى الدلالة الكونية المشاهدة في تكوين الكون الكبير المشاهد بالعيان.
إن الدلالة اللسانية لحرف لام والتي تدور حول وصل/ اتصال شيء بشيء أو أمر بأمر لجمعهما في شيء واحد تقودنا أيضاً إلى دلالة شرعية أن أوامر الله يجب أن (يوصل) بعضها ببعض، وأن أمر رسل الله يجب أن (يوصل) بعضه ببعض ولذلك نجد هذه الدلالة الشرعية تظهر بوضوح في سور القرآن الكريم التي ورد حرف لام في فواتحها، وهذا يؤكد أن لحروف اللسان العربي دلالات مختلفة منها:
1- الدلالة اللسانية.
2- الدلالة الشرعية.
3- الدلالة الكونية.
إذاً، يمكننا أن نستخلص من هذا الطرح أن وراء شكل أو رسم الحروف العربية المعاصر يكمن نظام محكم فريد للكتابة الدلالية (القياسية) اللسانية، وأنه يمكن تطوير أو تفسير نظام رسم حروف اللغة العربية للكشف عن قدرات دلالية جديدة لرسم الحرف العربي.
والله تعالى أعلم.
- الرياض
abdulalnour@hotmail.com