الثقافية - محمد هليل الرويلي:
نحن بحاجة لتبني مشروع تربوي وثقافي، تساهم فيه المؤسسة التربوية والأسرة و»الميديا»، وتعززه النخب الثقافية المعتدلة.
لا شي أمرّ على الحياة البشرية من غياب الضمير والمبادئ والقيم التي كفلتها ووجهتها الفطرة الإنسانية منذ النشأة الأولى. مرت الأيام والشهور والسنون، وتغيرت بعض المفاهيم، وأضيف للمبادئ مبادئ جديدة، استُخدم لها الصوت والصورة. أصبحت الفضيحة سبقاً صحفياً، استل لها القلم وصحاف الهاتف عبر «مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي» والصحف الإلكترونية والورقية.. عند غياب الضمير يحضر كل ذلك. اطعن أيها الإنسان، أيها المثقف، يا أنصاف المثقف, واشدد الطعن حين نطعن من كان يدافع عنا..
ظهره مكشوف لك، ارفع صوتك، اكتب قصيدة أو عموداً، «أطلق المدفع»، سل قلمك، شهِّر، دمِّر، أغلظ الخصومة بالفجور.. واغرزه بقوة؛ فهذا ظهره العاري ينتظرك يا بطل!
«اطعن..
فقد كشفوا لك ظهره..
لا تتردد.. واطعن..
فما رأينا كاليوم.. أسداً.. تطعنه هرّه..
اطعن لا تخف.. لا تخش شرّه..
فقد ولّى وجهه للأعداء..
وإليك أسند.. ظهره..
فاغتنمها فرصة.. ذهبية..
فطالما.. عبثاً.. حاولت ضرّه»
لكن، هل صحيح أن الإعلام مارس وساهم في تأجيج ظاهرة التشفي والانتقام؟ وهل ساهم أيضًا في تعميم وتأصيل الكراهية والنزوع إلى التشفي والانتقام؟ وهل حالة التشفي و»الشماتة المستترة» لدى بعض المثقفين، أو لنقل أنصاف المثقفين، أصبحت هي السائدة؟ في المقابل، ما الدور على أقلامنا لتكون «شمساً شارقة»؟
الأديبة والأكاديمية الدكتورة زكية العتيبي تعزز هذا الجانب، وترى أن بعض المثقفين المغمورين يعتقد أنه لن يشتهر إلا بسن رماح قلمه للنيل من كبار المثقفين، وعقيدته في ذلك (العيار الذي لا يصيب يزعج). يحب سحب الأضواء من الآخر ولو عرضه ذلك للشتم والسب.. حري بالمثقف أن يربأ بنفسه عن مثل هذه التصرفات، وعلينا جميعاً أن نستحضر قول الشاعر:
«إذا ما الدهر جرّ على أناس
كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بِنَا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا»
أما الكاتب محمد الدايل فاستهل حديثه بترديد بيتين قد نجد فيهما تفسيرًا لبعض ما يدور حول هذه الظاهرة الخطيرة:
يا أيُّها الشَّامتُ المبدي عداوتَه
ما بالمنايا التي عيَّرت مِن عارِ
تراك تنجو سليمًا مِن غوائلِها
هيهاتَ لا بدَّ أن يسري بك السَّاري
ويضيف الدايل: الشماتة لشر أصاب قريباً أو بعيداً أو مسؤولاً أو حتى عدواً ما هي إلا منافاة للأخلاقيات والخصال الإنسانية، بل هي معادية للسلوك الحسن السليم. وإن أتيت إلى الجانب الديني فها هو سيد الخلق رسولنا الكريم في حادثة (اذهبوا فأنتم الطلقاء) لم يتشفَّ ويشمت بأعدائه، بل صفح وغفر، وفي وقت الحرب ووقت الظفر والنصر يأمر أصحابه بعدم التعدي حتى على الشجر. هذا السلوك الإنساني الجميل مع العدو فما بلك بإنسان يربطك به وطن وهوية ومعتقد.. وقد يكون قريباً.
ما نلاحظه في الوقت الحالي، وخصوصاً بعد عالم التقنية، أن التشفي والشماتة من أي مسؤول سقط أو فشل أصبحا ظاهرة بل بشكل يتعدى فيه الشامت إلى أن يصل للخطوط الحمراء في عرف النقد الإيجابي إلى أن يصل للاستهزاء والاستحقار والتشفي المريع.. رغم أن ثقافتنا وأدبنا ضد هذا التوجه، بل ذمه ونقده ونصح بتجنبه.. إلا أن هؤلاء وكأنهم ليسوا من طينتنا وبني جلدتنا.
وقال العلاء بن قرضة:
فقلْ للشَّامتين بنا أفيقوا
سيلقَى الشَّامتون كما لقينا
والأدهى والأمرّ إن كان الشامت والمتشفي ممَّن يُحسبون على الطبقة المثقفة من كاتب أو شاعر أو مصلح اجتماعي.. إلخ، وهي التي يجب عليها أن توعي وتثقف الناس بهذا الجانب، وأن ترسخ الجانب الأخلاقي في هذه المسألة؛ فالمثقف هو عنصر مهم لتوجيه ثقافة المجتمع، وباستطاعته تسليط الضوء على هذا الموضوع وتوضيح جميع جوانبه، والتفريق بين النقد والتشفي والتوضيح.
وقال نهشل بن حري:
فقلْ للذي يُبدي الشَّمَاتَةَ جاهلًا
سيأتيك كأسٌ أنت لا بدَّ شاربُه
إذًا، فالنقد لوضع قائم كأداء مسؤول في عمل معين واجب، ولكن بعد سقوط مسؤول واجب أن تقف عملية النقد والتشفي؛ وذلك لانتهاء عمله، بل يجب أن نذكر محاسنه وأداءه والشكر له على مهامه التي أداها.
ويصف الكاتب بصحيفة الوطن حسن مشهور التحولات التي طالت المجتمعات بالمنطقية؛ وذلك لكون المجتمعات تطولها تحولات حضارية وفقاً للمتغير الثقافي أو السياسي أو الاقتصادي الداخلي وكذلك الخارجي. والمجتمع السعودي ليس مجتمعاً أتوبياً؛ فهو كغيره من المجتمعات، قد طالته يد التغيير بفعل النقلة الحضارية التي أحدثتها الوفرة النفطية، وتحديداً في العقود الخمسة الأخيرة. هذه التحولات تفاوتت بين الإيجابي
والسلبي، وهو أمر منطقي، انطلاقاً من فهمنا لبنية العالم وفق ثنائية الخير والشر.
من تلك التبديلات بشقها السلبي هو تلك الثقافة الممجوجة والسلبية التي طالت بعض النخب الثقافية، وأعني بها تحديداً ممارسة التشفي والسخرية من أي مسؤول عقب خروجه لسبب أو لآخر من منصبه الرسمي أو مغادرته لمهامه الوظيفية.
هي في تقديري ممارسة محدثة، تولدت من جراء تنحية المُثُل التي تربينا عليها والقيم الاجتماعية المستقاة من الدين وغلبة الأنا والنرجسية الذاتية التي لوثتها متغيرات الحضارة، وأصبحت تقيّم التعاطي الثنائي وفق فكرة ما هي المكاسب التي سأحققها وليس وفق فكرة ماذا سأقدم للآخرين.
في الماضي قرأنا أن أجدادنا العرب الأُول، وعبر التاريخ، كانوا يتبنون مُثلاً وقيماً تتسم بالنمذجة، ويسعون جاهدين لتطبيقها ميدانياً، ومن ذلك قول الصدق، والبُعد عن الخيانة والغش، والإحسان للجار، والرحمة لعزيز القوم إذا ذل.. إلى آخر ما هنالك من القيم المثلى.
المفارقة أننا نجد اليوم أن من ينبغي أن يحمل مشعل التنوير، ويفترض منه أن يعزز بممارساته السلوكية هذه القيم الاجتماعية، هو من يمارس النقيض.. بل الأدهى أنه في حالة نجاح ذلك المسؤول في الاضطلاع بمهامه الوظيفية وتمكنه من تحقيق المنجز المفترض منه فإننا لن نجد من يسعى لإبراز تلك النجاحات، وكأننا قد تحولنا من دعاة بناء إلى دعاة هدم.
حقيقة الأمر، نحن بحاجة إلى وقفة، ونحن بحاجة لتبني مشروع تربوي وثقافي، تساهم فيه المؤسسة التربوية والأسرة والميديا، وتعززه النخب الثقافية المعتدلة، بحيث يوجه للجيل القادم؛ كي نتمكن من قولبته فكرياً وفق الفضائل المفترض ممارستها اجتماعياً، وينص عليها ديننا الحنيف، وتطالب بها المجتمعات الحضارية.