سفن طارق بن زياد نموذجاً
جرت عادة عامة المؤرخين وكتاب الأخبار والسير، جرت عادتهم من قديم الزمان أنهم ينقلون ما يسمعون، وما يُكتب إليهم، وما يرويه لهم غيرهم من الوقائع والأحداث والأخبار، فيدونونها على حال ليست بذاك، فيقع عندهم أشياء لا تُصح بحال. وكنت قد درست هذا ردحاً من الزمن في كتاب (نقد آراء ومرويات العلماء والمؤرخين)، بينت فيه الخلل الذي وقع فيه كثير من هؤلاء، مثل: المسعودي صاحب مروج الذهب، وأبو الفرج الأصبهاني صاحب الأغاني، وابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، والجاحظ في البيان والتبيين، وابن شبّه والأزرقي وغيرهم من المؤرخين وكتاب السير. ولقد وقع كثير من المعاصرين في مثل ما وقع به كثير من المتقدمين، ولعل المتقدمين لا يقصدون الكذب ذاته والوضع ذاته في ما يروونه من الأخبار والروايات منذ البعثة إلى السنة العاشرة للهجرة، لكنهم يكتبون وينقلون ويروون على طريقة خذ وهات دون تمحيص أو تدقيق أو تثبت، وذلك من خلال الأسانيد وأحوال الروات وطبقاتهم ومروياتهم، ولهذا وقع كثير من الدارسين المعاصرين من العلماء والمؤرخين والباحثين في خلل النقل المجرد الإحالة على كتب تنقل نقلاً وتورد إراداً دون شاهد مادي يقوم عليه الحق من المتون، وهذا أبطل عملية التجديد في الآليات العلمية والنقدية في التاريخ والسير والروايات. والذي أقوله صادقاً إن ما يُدوَّن اليوم عن طريق النقل ليس إلا قد يجر على مجرد الحكايات فيصدقها العوام وكذلك يصدقها عوام الكتاب والنقلة، ولهذا نجد قصة الغرانيق مع بطلانها مدونة، وكذلك قصة التحكيم والتي ندب إليها علي - رضي الله عنه - أبا موسى الأشعري وندب إليها معاوية - رضي الله عنه - عمراً ابن العاص للفصل في الخصومة فيما جرى بين الفريقين والفئتين المؤمنتين، ونجد هذا مدوناً في كثير من الكتب تاريخه والسير حتى لعلها في بعض المناهج الدراسية، وكذلك ما ينقل عن معاوية أنه أمر بسب علي على المنابر، وكذا ما ينقل في بعص المصادر التاريخية لا سيما كتب الصوفية أن قبر آمنة بنت وهب موجود في الأبواء، ومن المعلوم أن الذي يريد السفر من مكة إلى المدينة لا يسلك طريق الأبواء إنما يسلك الطريق الغربي مروراً بالجموم وعسفان فتكون المسافة قرابة سبعة إلى ثمانية أيام، أما الطريق الأول فيصل المسافر من مكة إلى المدينة بقرابة أربعة عشر يوماً. وكذلك ما ورد من أن موضع مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- هو في موضع المكتبة الآن بمكة، وهذا أمر لميح سنداً ولا متناً، ولكن النقل من هنا وهناك دون تثبت من أحوال الروات ودرجاتهم يجعل الأمر ضربة لازب. وكذلك أيضاً ما تم نقله من قضية أن عثمان - رضي الله عنه - نفى أبا ذر إلى الربذة نفياً، ولم يحصل هذا بسند صالح يقوم عليه المتن. وكذلك ما تم نقله عبر القرون من قضية اتهام عمر لخالد حينما عزله وولى أبا عبيدة مكانه. والحقيقة أن ما يوم حليمة بسر وليس يمكن حجب الشمس، ولست أخال أن الحق إلا هو الحق على واضح من طرس تليد، ولكن هذا يحتاج إلى موهبة العقل في التثبت من الأسانيد والمتون ومعرفة أحوال الروات والجرح والتعديل والشذوذ والعلة وإلا لأصبح كل الناس علماء وباحثين ومحققين وكتاباً، ولكن ليس كذلك، وقد وقع لي كتاب للدكتور عبدالحليم عويس بعنوان «أسطورة إحراق طارق للسفن»، وقد عرضته مجلة الوعي في عدد 607 لشهر ربيع الأول من عامنا هذا 1437هـ، وقد أورد بالأدلة المادية أن هذا ليس بصواب، حيث لم يذكر إحراق السفن إلا بعد الفتح الإسلامي للأندلس بأربعة قرون، إذ لم تذكره الكتب المشهورة التي أرخت للأندلس مثل كتاب أبي بكر محمد القرطبي المشهور بالقوطي المتُوفى سنة 267، وكذلك تاريخ افتتاح الأندلس صاحب كتاب أخبار مجموعة افتتاح الأندلس، وكذلك أحمر ابن محمد آل الرازي وابنه عيسى وابن الفرضي صاحب كتاب تاريخ علماء الأندلس، وكذا الخشني صاحب كتاب قضاة قرطية، فكل هؤلاء الأثبات لم يذكروا إحراق السفن، وهذا في نظري يبطل هذه النسبة لاسيما وطارق ابن زياد أخذ العلم عن المسلمين وإن لم يكن عربياً لكنه مسلمٌ يقتدي بدينه ولا يمكن أن يفعل هذا الشيء لاسيما وهو من ذوي كمال العقل والرأي السديد. وهنا كتاب أخرى مشهورة مؤلفوها معروفون لم تذكر إحراق السفن إبان الفتح الإسلامي الذي ضم جملة من البربر المسلمين والعرب المسلمين والأفارقة المسلمين، وهم هنا مع طارق كانوا قليل العدد أعني الأفارقة، والمؤرخون هم هؤلاء أبو مروان ابن حيان القرطبي وكتابه المقتبس، وابن حزم زكتابه نقط العروس وكذا طوق الحمامة، والحميدي وكتابه جذوة المقتبس، والطرطوسشي وكتابه سراج الملوك، وكذلك ابن بسام وكتابه الذخيرة في محاسن الجزيرة، وكذلك ابن بشكوال وكتابه الصلة. قلت وميزان الجرح والتعديل في نظري ونظر المختصين من العلماء الباحثين في علم الحديث والسير والأخبار رواية ودراية يبطل ما هو مشهور من أن طارق بن زياد قد أحرق هذه الكتب، والذي يعود إلى كتابي نقد آراءرويات العلماء والمؤرخين يجد حقيقة القول سنداً ومتناً في كثير من الأحداث والوقائع، ولعل الذين ذكروا الإحراق منهم الإدريسي المتُوفى سنة 506 في كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، ولعل الدكتور محمود بن علي بن مكي لم يذكر الإحراق هذا إلا من باب الرد وأن هذا أسطورة، كذلك الحال بالنسبة للزمن فإن فيه كبار العلماء من المحدثين وعلماء الأسانيد والمتون زخرت بهم العراق والشام والحجاز وجزء من أقريقيا مصر والصومال والمغرب فلم يذكروا هذا، إذ إنهم لم ينتقدوه، ولو تم لذكره العلماء لاسيما وقضية الإحراق لو حصلت لاشتهرت في زمانها على حقيقة لا تقبل الجدل لكنها ذكرت في حال تأخرت أربعة قرون، وهذا الأمر أبينه هنا على أن يكون أمراً يتبين لكافة كبار العلماء والمحققين والباحثين أنه لابد من طول التأني وسعة البال وجمع الأقول وفي مقدمتها الأسانيد إذ لابد منه خاصة قضية الإحراق وقد كانت في زمن قوة الرواية وشهرة كبار العلماء في الأرض من أجل ذلك لعل في هذا مني أشارةٌ إلى ضرورة الدقة والأمانة وتصحيح الأخبار والنقولات فيما بعد، وذلك بشدة التحري وضبط الأسانيد أو سؤال ذوي الاختصاص الذين يحفظون الوقائع والأحداث مع الأسانيد والمتون فيخرجون منها الصحيح من الضعيف وما له أصل مما ليس له أصل، وذلك حتى يقوم العلم علم الأخبار وعلم التاريخ والتحقيق وعلم الفتوى على قاعدة صلبة من علم قوي مكين وعلى قاعدة صلبة من علم قوي متين.
- الرياض