(أ)
أكثر من مؤتمر في أكثر من دولة عربيّة، وتحت رعاية أنظمة سياسيّة أو أكاديميّات ومؤسّسات ثقافيّة رسميّة و/أو أهليّة، وأخرى كتابات وكتب وبرامج ومقابلات تحت العنوان نفسه، العنوان المكرّر منذ عصر النهضة: (تجديد الخطاب الديني) وإن ظهر تحت مسمّيات مختلفة:(الإصلاح الديني، تجديد التراث، تجديد الدين)؛ وهذه الدائرة التي يزعمون أنّها تحتوى الحلّ لمشكلات العنف والتطرّف المسلّح والتأخّر الحضاري عاجزة عن إيجاد حلٍّ، وليس افتراضاً ما نؤكّده فنتائج تجارب مئة عام منذ ظهور هذه البدعة التي تريد أن تقحم نفسها في عالم السياسة والمادة كفيلة أن تؤكّد أن دعاة هذا (الحلّ الديني) يطاردون وهماً وسراباً كبيراً؛ ونحن نتساءل هنا: أليست مئة عامٍ من الفشل كفيلة لإثبات أوهام الدينيّ! كيف لحلّ ما ورائي- غير مادي أن يكون طرفاً في حلّ واقع وماديّ؟ هل يتّقي دعاة هذا الحل مواجهة العموم، على الظنّ أنّ العموم هو الذي يصرّ على إبقاء الدين في المعادلة السياسيّة؟ وهؤلاء الذين يصرّون على هذه الدائرة كيف لم يقدّموا أثناء طروحاتهم ما نقدّمه من أسئلة عن استحالة إيجاد الحل من داخل هذه الدائرة قبل تطبيقه؟ فليس صعباً أن ترى أن دائرة الحل الديني عاجزة (لعدم اختصاصها) عن إيجاد حلول واقعيّة-مادية تحاصر العنف والتطرّف، فكل هذه النقاشات ذات العناوين المنسوخة والمكرورة خالية من ملامح مشروع سياسيّ يمكن أن ينفّذ؛ ولكن/ لماذا لا يكون البحث والتساؤل في دائرة أخرى، وتحديداً: (الدائرة السياسيّة-الدائرة الماديّة)؟ هل المشكلة في الخطاب الديني؟ أم في الخطاب السياسي؟ أيّهما سمح للآخر بمنافسته؟ ومن سمح للآخر بالظهور بقوّة وبتأثير واسع؟ ثمّ قبل ذلك: أيّهما قابل للتجديد؟ أيهما خاضع لقوانين المادة والأسباب والوقائع والمصالح؟ هل الخطاب الديني قابل للتجديد؟ وكيف ومتى وأين ومَن؟
* *
الملاحظ في دعوة (تجديد الخطاب الديني) الطوباويّة: أنّها نتيجة عند طرفين متعارضين، فبينما يشخّص دعاة وقيادات الخطاب الديني الواقع والتطرف والعنف بأدوات وطرق مختلفة عن تشخيص معارضي الخطاب الديني، إلاّ أنّهما يلتقيان في الحلّ: (تجديد الخطاب الديني) فكلاهما يُصدّر أنّ الحلّ يكمن في تجديد الخطاب الديني.
وكلاهما في المحصّلة وفي جزء من سياقه يُبرّئُ حالة إقحام المدونة الإسلاميّة في المجال السياسي عمّا آلت إليه الأمور وأنها سببٌ رئيسٌ في التعثّر السياسي، ويضع الحلّ في سلّة الخطاب الديني، وهذا عين العلّة نفسها، لأنها لا تحسم الجدل بين السياسة والدين، وتصرّ على منح الخطاب الديني مشروعيّة بقائه سياسياً إذا عدّل من خطابه، (كأنّ) العلّة في بعض تفاصيل الخطاب لا في الخطاب نفسه، هذا زعمهم.
وعلى الرغم من دقّة تشخيص الوضع القائم في الكثير من الطروحات، بل، بات التشخيص الدقيق متوفّر للجميع، لكنّ دقّة ونجاح التشخيص لا يعني دقّة ونجاح العلاج والحلول التي تطرح باستمرار على أنّها تتضمّن حلّاً سحريّاً، والواقع فيما آلت إليه الأحداث تثبت استحالة تطبيق الحلّ: (حلّ أو مشروع تجديد الخطاب الديني على افتراض وجوده وهو مستحيل) ممّا يجعله في عداد الوهم (أو التسويف المتعمّد)، لطالما يبتعد عن المشكلة الرئيسة الموجودة في الخطاب العربي السياسي الجامع للخطابين السياسي والديني.
(ب)
الخطاب الديني لن يفصل نفسه بنفسه عن الخطاب السياسي، وبالتالي تبقى عملية الفصل من مسؤولية وقدرة الخطاب السياسي العربي، فالفصل يحتاج إلى تشريع سياسي هو من صميم عمل السياسة وخطابها، فالحلّ في الخطاب السياسي نفسه، ومسألة التجديد يجب أن تنصبّ باتّجاه هذا الخطاب أوّلاً، فلا يمكن لأيّ خطاب ثقافي أو ديني أن يثمر تطوّراً سياسياً، فالخطاب السياسي مسؤول عن نفسه بتجديد خطابه بعدم الاعتماد على الديني باعتباره شريكاً له في السياسة ووصيّاً وراعياً؛ هنا –تحديداً- يجب أن تكون صناعة القرارات السياسيّة التاريخيّة.
وهنا - تحديداً- يكون تجديد الخطاب السياسي، القادر على تجفيف منابع العنف، وهنا يمكن أن يصبح الإرهاب مجرد استثناء لا يحظى بمواد وتفسيرات وتأويلات قانونيّة قد تدعم وجوده عبر الدين والتديّن.
(ج)
قد أبدو وأنا أنتقد دعوة التجديد عند ناقدي الخطاب الديني أنّي أُصدّر لموقف متطرّف من الخطاب الديني، والمسألة أنّ نقد الخطاب الديني لا يعني تقديم حلّ يفضي بإبقاء الخطاب، فنحن هنا وفي كتابات سابقة نقدنا دعوة تجديد الخطاب الديني وبيّنا في مرات عديدة استحالة تطبيقها حتّى أنّها أصبحت جزءاً من إطالة الخطاب وجزءاً من المشكلة.
يقول أحدهم: (نحن مليار مسلم) باعتماده على إحصاءات مطلقة ليست من الدقّة بشيء: فهذا الرقم وهمي ولا يتطابق مع الواقع، وهو لا يختلف عن وضعك لإحصاء المسجّلين في الأديان الثلاثة الشرق أوسطيّة في رقم واحد: هل يعني شيئاً ذلك الرقم؟ (مليار مسلم) رقم يريد أن يوحي أنّ الإسلام والمسلمين واحد ويتجاوز الواقع.. عشرات الدول والمذاهب والطوائف والطرق والفرق والأحزاب والمعتقدات الحزبية والمدنية.
الذي يقول: (بتجديد الخطاب الديني) يقع بالأخطاء التالية مباشرة:
1. يفترض أن واقع الإسلام على مذهب واحد، وأن هناك إمكانية لإعادة تأهيله وإصلاحه؛ وهذا خطأ فادح وواضح، وهو سراب ليس له وجود في الواقع.
2. يفترض أنّ الإسلام يقع في دولة واحدة وهذا خطأ فادح وواضح.
3. يفترض أنّ هناك سلطة في يد أحد ما يستطيع أن يفرض (مخرجات التجديد) بالقوة على أتباع المذاهب جميعةً.
4. يفترض أنّ أحداً ما قادراً على استحداث مذهب جديد إصلاحي ويلزمه لجميع أتباع المذاهب أخرى.
وعلى خطأ الافتراضين الأوّل والثاني فإنّ الافتراضين الثالث والرابع إن تحقّقا فلا يتحقّقا إلاّ بقوة استبداديّة تجبر الناس على رؤية (للدين) تختلف عمّا كانوا يعتقدونه (محاكم تفتيش).
الحلّ ليس في التصوّرات الدينيّة، ولا يمكن أن يكون في تجديدها إنّما في تعطيل عملها في مجال السياسة والمجتمع والتعليم العام، فكلّما ابتعد التشريع السياسي عن الخطاب الديني كلّما فقدَ الخطاب الديني سلطته وحظوته وقبوله بين العموم بوصفه مؤسسة سياسيّة وعاد إلى مجاله الفردي والأخلاقي المتعلّق بالشخص دون التدخّل والإضرار بالآخرين، وكلما اقترب الخطاب الديني من التشريع السياسي كما حاله اليوم في الأنظمة العربيّة ودساتيرها السياسيّة فإن أيّ دعوة لتجديد الخطاب الديني إنّما تريد إبقاءه مقترناً بالمجال السياسي، وإنّ ظنّ دُعاة التجديد أنّهم قد يصلون إلى خطاب ديني معتدل عبر التجديد أو إلى خطاب سياسي علماني عند دعاة العلمانيّة فالواقع أثبت أنّ هكذا دعوة مع استحالة تطبيقها فإنّها تناسب الخطاب الديني السياسي لطالما تُبقي على مشروعيّة بقائه، وتزيد من لُحمته مع الأنظمة السياسية في سياميّة جعلت كلّ من أراد أن يدخل المجال السياسة يرتدي شيئاً من قميص الدين.
(د)
ما الذي يجعل من سياسيين وأكاديميين ومنشغلين بنقد الخطاب السياسي الديني لا يرون من نراه على وضوحه؟ ونحن أقرب إلى الظنّ أنّهم يرون ما نرى؛ هل يراهنون على عامل الوقت أن يغيّر الواقع دون صناعة قرارات تغيير؟ هل هم متورّطون بالحلول المؤقّتة؟ هل يتصورون أن تسويف المشكلة يحدّ من خطورتها ولا يضخّمها؟ الأسئلة كثيرة، ومن الضروري مناقشتها لمعرفة هذا الإصرار على الأسباب التي تنتشر بسببها دعوة عاجزة يستحيل تطبيقها، فلعلّ في معرفة الأسباب يمكن علاج هذا الإصرار تحقيقاً للتركيز على البحث الواقعي في الدائرة السياسيّة، التي على رأس أدواتها الفاعلة في نطاقها هي (الحريّة)، فهل اتضحت الصورة؟ هل اتضّح السبب الرئيس في اللجوء إلى دعوات ضبابيّة على أنّها حلٌّ وهي وهمٌ؛ أليس (غياب الحريّة الفرديّة) في مجالاتها السياسية والاعتقاديّة مسؤولاً عن إنتاج معارضة سياسيّة تستغلّ الدين، لطالما لم يزل استئصال الحريّة جزءاً من تشريعات الأنظمة العربيّة، وهو الاستئصال الذي يخدم سياميّة السياسة والدين، وأنت بحال من الأحوال لا يمكن أن تبدأ بمشروع تجديد لخطاب سياسي لا يبدأ بتشريع الحريّة وفصل هذان السيامان عن بعضهما، وإعادتهما إلى حيث ينتميان: هذا إلى العالم المادي المتقلّب الدنيويّ، وذاك إلى المعتقد الخاص الثابت والغيبي.
- جدة