لعلّ السؤالين الأجدر بالفاتحة ها هنا هما: هل هناك من يتعمّد اعتناق العقيدة القاتلة؟.. ثم لماذا؟
وربما الإجابة هنا تبدأ بفكرة مفهوم الحياة والموت وقيمتهما عند معتنق العقيدة الهُبلِيّة، فالجيل الثاني من معتنقي هذه العقيدة أو الثالث أو الرابع هم مستهلكون بالاعتناق، لاعتبارات عدة منها، أن اعتناقهم لها تمّ بحرية واختيار متعمد وهو ما يعني أنهم يملكون خلفية واضحة عن مكونات تلك العقيدة وآثارها، وبالتالي يصبح ما يقومون بها من ولاءات تامة الإدراك والعقليّة، وفق ميثاق غير مرئي مُلِزم بالاتباع والتبعية، بما فيها مفهوم الحياة الموازي للتضحية والموت الموازي للخلود.
وبذلك فإن أسس مفهومي الحياة والموت تتغير حركتهما، فغريزة البقاء المرتبطة بالحياة تُنزع عبر تلك الحركة بالتضحية، وغريزة الخوف المرتبطة بالموت تُنزع عبر تلك الحركة بالخلود، من خلال «وسيط التبادل» لتُصبح غريزة البقاء مرتبطة بالموت، وغريزة الخوف مرتبطة بالحياة، الحياة التي تحمل التجربة غير السارة في وجود متحولي العقيدة، وبالتالي فالموت هنا مرتبط بالنموذج التعويضي المطلق كامل الأوصاف.
إن فكرة الموت والحياة عند المجتمعات الدينية تختلف عن المجتمعات المُلحدة أو الأفراد المُلحدين اختلاف مراجعه إلى «مُسلّمة ما بعد الموت»، فالملحد ومن يسير على نهجه يرى أن للإنسان حياة واحدة هي الحياة الأرضية، وأن تلك الحياة تنتهي بموته فلا حساب ولا بعث و لا نشور، بينما يؤمن المسلم مثلاً أن الحياة الأرضية للإنسان هي مرحلة أولى، وأن هناك حياة أخرى للإنسان بعد موته تخضع للحساب والبعث والنشور ثم نعيم دائم أو جحيم دائم إلا من رحم الله.
وتلك الحياة الأخرويّة لها مراتب أعلاها الشهداء أو المُضحيّن بأنفسهم في سبيل عقيدتهم، وذلك العلو هو النموذج المطلق للموازي التعويضي الذي يسعى خلفه معتنقو هذه العقيدة والذي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تقديم الذات كقربان للتضحية.
وفكرة الديمومة النعيمية أو الديمومة الجحيمية أو الأبديّة النعيميّة غالباً هي التي تستغلها العقيدة الهُبلِيّة لدفع معتنقيها إلى رضا الاستسلام لفكرة «الموت التعويضي» في سبيل قصدية تلك العقيدة وتمكينها، من خلال الحياة الموازية في الآخرة بالحياة في الدنيا، لكن ذلك التوازي غالباً ما يعلو مفاضلة عن مثيله الأرضي من خلال تضخيم التعويضي القائم على «خيال المحرومين» من متع الدنيا بحياة تعويضية تفوق تلك الأرضية.
إن الخيال هو أول مبادئ العملية التعويضية التي تجذب معتنقي تلك العقيدة، لكن مستوى التعويض ها هنا يتجاوز حد النقص الضروري للذات المتهدمة بفعل عقيدة التحجيم بالدونية والذي يوازن مستوى التكامل الطبيعي للمُتاح والمنطقي، تجاوز يخرج من حيّز التعويض الضروري إلى تعويض يتجاوز المثالية الأرضية أو كماليته النموذجية، وذلك التعويض المطلق لا يمكن التحكم في صدقيته وواقعيته إلا عبر «التحكم في خيال معتنقي تلك العقيدة».
إن الإيمان بحقيقة المستحيل وصدقية واقعه يحتاج إلى «خيال» يُوازي الإيمان ذاته.
والتحكم في صناعة خيال الأفراد هو تحكم في عقل وإرادة وفعل وقوة أولئك الأفراد، فأنا أستطيع أن أبني قيمة وهمية «لذات موجوعة بالدونية أو الاضطهاد أو الظلم أو التهميش» من خلال تصميم نموذج تعويضي خيالي يرفعه من قاع الدونية إلى مرتبة الشرف والمجد والبطولة، وإن كانت تلك المعاني مُختلفاً عليها لحد النقيض، وذلك النقيض في ذاته هو إحدى علامات نجاح النموذج التعويضي لمعتنقي تلك العقيدة من خلال ما يكتسبه أولئك من شهرة تُعزز «التفوق الذاتي» و «التمييز الاصطفائي».
وقد تُثير هذه النقطة هذا التساؤل، وهل يمكن أن يتم التفوق الذاتي للفرد والتمييز الاصطفائي الخاص عبر المجموع؟.
إن صناعة قوة وهمية للضعفاء تحوّلهم إلى وحوش وصناعة قوة وهمية للمظلومين تحوّلهم إلى دكتاتوريين، هذا هو الثابت عبر التاريخ وعبر الطبيعة الإنسانية التي لا يستطيع أحد أن يراهن على تمام معرفتها.
أعود للإجابة على السؤال السابق، نعم يُمكن أن يحدث ذلك في حالة إن كانت قيمة التفوق علامة ترويجية للأعلى والأفضل،كما يمكن أن يُسلب من الفرد «قيمة التفوق والاصطفاء» إذا كان ينتمي لمجموع تغلب عليه سلبية الدونية أو التخلف والرجعية أو الضعف والجهل.
فلو أخذنا مثلاً «أمريكا» هذا اللفظ أصبح على مستوى العالم «علامة ترويجية ثابتة» للقوة والبطولة والعلم والحضارة، وبالتالي فالفرد الأمريكي يستفيد من خصائص تلك العلامة، مما تجعل كل أمريكيّ نموذجاً للقوة والبطولة والعلم والحضارة، وفي المقابل هناك من الكفاءات الفردية مجداً وبطولة وعلماً وحضارة يهتز تفوقها الذاتي لكونها تنتمي إلى العالم الثالث أو دول رجعية ومتخلّفة مما يُضيع قيمته الخاصة بسبب خصائص المجتمع المنتمي إليها، والكثير من تلك الذوات يفضلون دوماً الانفصال عن انتمائهم الجمعي والانضمام إلى مجتمعات تتشابه خصائصها مع امتيازات تفوقهم الذاتي، ولعل القول السابق إجابة على سؤال طالما نردده: لماذا تسعى دول الغرب وأمريكا إلى جذب انتماء العقول العظيمة في دول العالم الثالث؟.ز حتى تعزز ثبات علامتها الترويجية لتظل رمزاً للعلم والحضارة والمجد.
والأمر لا يقف ها هنا، فأمريكا وبعض دول الغرب التي تسعى إلى جذب العقول العظيمة في مجال العلم في دول العالم الثالث، تسعى أيضاً إلى جذب العقول العظيمة في مجال الإرهاب والدكتاتورية ولكن من وراء حجاب، لأن من خلالهما تستطيع أمريكا مثلاً إثبات قوتها للعالم وما تتميز بها من بطولات وتضحيات من أجل العالم وأنها «ابنة الرب» فوق الأرض التي تُبشر بالسلام والحرية والديمقراطية، - وتلك عقيدة هبليّة أخرى - عقيدة لا تسطيع أن تثبتها أمريكا إلا من خلال «خلق الشر والإرهاب في العالم» ثم محاربته.
والأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة لمعتنقي العقيدة الهُبليّة، لقد أصبحت الجماعات المتطرفة بداية من القاعدة ووصولاً إلى داعش «علامة ترويجية ثابتة» للقوة التي تتحدى أعتى قوى العالم وتهز عرشها، وهذه القوة يكتسبها كل معتنق لتلك الجماعات.
إن الذوات التي عانت من القهر بسبب ضعفها، والاضطهاد بسبب ضعفها، والظلم بسبب ضعفها على استعداد أن تتحالف مع الشيطان أو تبيع له روحها لتستبدل ضعفها قوة.
إن رحلة الانتقال من قاع الضعف إلى قمة القوة هي التي تصنع وحشية الإنسان.
- جدة