يجتهد الأديب في تجويد نصه، ويعمل فكره وعقله ليخلق في فضاءاته مجموعة من الصور الإبداعية التي تشدُّ القلوب، وتلفت الأنظار، وتطرب الآذان، وتشده العقول، ليُدهش ويمتع، وليكشف عن حجم مقدرته الفنية في صياغة أفكاره ورؤاه؛ ولهذا يسعى المبدع إلى الاعتماد على مجموعة من الانحرافاتٍ التعبيرية والعدولات الأسلوبية التي من شأنها أن تبعث في نفس المتلقي المفاجأة والإدهاش، وتضعه فوق أعلى قمة من قمم المتعة الأدبية واللذة الفكرية، وهي مهمةٌ كبرى يتنافس الأدباء في محاولة تحقيقها بجودةٍ عاليةٍ وإبداعٍ متناهٍ، ونسجها بإحكامٍ ضمن نصوصهم الفنية، ومن ثمَّ نجدهم يتفاوتون في حجم الأثر الذي يحدثونه في المتلقين، وهذا بعض ما يُفسِّر تفاوت منازل هؤلاء المبدعين في سلم الأذواق ومراتب التفضيل.
وفي هذا المقام أشير إلى جماليات أسلوب من الأساليب الفنية التي لم تأخذ نصيبها من اهتمام الدارسين، ربما لقلة وروده أو لصعوبة نظمه أو ندرة الإبداع فيه، ولعلَّ هذا ما يُفسِّر قلة شواهده في التراث القديم، وهو ما يمنحه مزيداً من الأهمية، ويضيف إليه مسحةً من الجلال والهيبة، حيث لا يجد المتأمل في كتب البلاغة شواهد كثيرة على ما يسمونه (حسن التعليل) الذي سأحاول من خلال هذه المساحة أن أضيء بعض جمالياته، لتعريف القارئ به، وبأبرز نماذجه، مؤملاً أن يجد المتعة الكبرى في فضاءات هذا الأسلوب البديع في بعض نصوص مالئ الدنيا وشاغل الناس.
تأمل معي قول أبي الطيب في سياق مدحه لهارون بن عبدالعزيز:
لم تحكِ نائلكَ السحابُ وإنَّما
حُمَّتْ به فصبيبُها الرُّحضاءُ
الشاعر هنا لا يريد مجرَّد وصف الممدوح بالكرم، بل يسعى إلى أمرين: المبالغة في هذا الوصف والوصول به إلى أعلى درجات الجود والسخاء، ثم تقديم هذا المعنى في قالبٍ في غاية الجمال والبراعة، يحمل أقوى درجات الإدهاش والإبهار، وأرقى أنواع الطرافة والجدَّة والابتكار، إنه لا يريد نصاً تقليدياً، ولا معنى نمطياً يُقرأ فيُنسى في اللحظة ذاتها، بل يظلُّ خالداً في النفوس والأذهان على مرِّ العصور.
أبو الطيب في هذا البيت يؤكد أنَّ كرم الممدوح وسخاءه لا يمكن أن يماثله أحدٌ فيه، ويستحيل أنَّ يوجد شيءٌ يمكن أن يشابهه ويحاكيه فيما يمنحه من عطايا وهبات، وهنا يحضر (السحاب) بوصفه معادلاً موضوعياً للكريم في عُرف العرب، حيث اعتادوا في نصوصهم أن يشبهوا الكريم به من جهة العطاء الكثير دون حساب، فيفترض الشاعر أنَّ السامع يتساءل: إذا كان الممدوح في غاية الكرم كما يُدَّعى، فهل يمكن أن يكون السحاب منافساً له في ذلك، خاصَّةً والجميع يرى انصباب الغيث منه، وانهمار المطر من جوانبه، فيروي الأرض، ويغيث العباد والبلاد، ومع ذلك لا يطلب ثمناً على هذا العمل، ولا ينتظر ثواباً من أحد، ولا يترقَّب جزاءً ولا شكوراً!
وهنا يفاجئنا الشاعر المبدع بأسلوبه الاستثنائي ليصوغ ادَّعاءً في غاية الجمال والإدهاش، وهو أنَّ ما يراه الناس من غيثٍ نازلٍ من السحاب ليس في الحقيقة غيثاً، ومن ثمَّ فإنَّ الماء النازل منه ليس بسبب ما يتصف به هذا السحاب من كرم؛ لأنه ليس في الوجود أكرم من الممدوح، وإنما هو العرق الذي يُصاحب الحمَّى التي أصابت السحاب بسبب خجله وارتباكه وهو يشاهد جود الممدوح وكثرة عطائه؛ لذلك فلا عجب أن يتصبَّب عرقاً لأنه لم يتمكن من محاكاة كرمه وتقليد جوده.
لقد لفت أبو الطيب أنظار المتلقين إلى علةٍ جديدةٍ لنزول الماء من السحاب، تحمل كثيراً من الإبداع والخيال والطرافة، معتمداً على عدم نظرهم في العادة إلى العلة الحقيقية لهذا النزول، ومستثمراً هذه الأفكار في تأكيد علو كعب الممدوح في الكرم والسخاء من خلال أسلوبٍ في غاية الروعة والإدهاش.
وفي نصٍّ آخر نجد أبا الطيب يعمد إلى هذا الأسلوب في تأكيد الغرض نفسه وهو المديح، ولكن من خلال وصفٍ آخر، ليدلَّ على براعته في استخدام جماليات التعليل في صياغة مثل هذه الأغراض، وليؤكِّد إبداعه في استثماره بشكلٍ بديعٍ في الإمتاع والإدهاش، يقول في مدح بدر بن عمَّار:
ما بِهِ قَتْلُ أعادِيهِ وَلَكِنْ
يَتَّقِي إخلافَ مَا ترجو الذِّئابُ
لقد استقرَّ في الأذهان وعُرف عند الناس أنَّ الملك حين يجهِّز الجيوش وينطلق بهم إلى الأعداء فإنه لا يقصد من هذا الفعل سوى إهلاكهم وإفنائهم؛ رغبةً في التخلُّص من آفاتهم وأضرارهم، ومن ثم الاطمئنان إلى استقرار ملكه وأحوال رعيته، فلا ينازعه أحد، فيحصل الأمن والرخاء، هذا هو السبب المعهود المعروف لهجوم الملك على الأعداء.
لكنَّ أبا الطيب بقدرته الشعرية الباهرة، وأسلوبه الجميل الخلاب، يخالف كل هذه الحقائق، ويضرب بها عرض الحائط، وينفي بشكلٍ قاطعٍ أن يكون ممدوحه بدر بن عمَّار يهجم على الأعداء ويقتلهم لمجرَّد إفنائهم والتخلص منهم، وهذا ما يؤكِّده في الشطر الأول من النص، وهنا تشرئبُّ النفوس، وتترقَّب العقول السبب في هذا القتل، متعجبةً أولاً من نفي هذه الحقيقة المعروفة، ومنتظرةً بشغف العلة الجديدة التي يوشك أبو الطيب أن يدَّعيها في الشطر الثاني، حيث تتلوَّى الأعناق لمعرفة ما بعد حرف الاستدارك (لكن) الذي خُتم به الشطر الأول.
ولا يترك أبو الطيب المتلقي ينتظر كثيراً لتتكشَّف له المفاجأة، ويتعرَّف على علة قتل الممدوح لأعدائه، حيث يؤكِّد أنه يفعل ذلك رغبةً منه في عدم تخييب رجاء الذئاب التي كانت تعدُّ خروجه للحرب في كلِّ مرةٍ مصدراً من مصادر الرزق، حيث تكون هذه الحيوانات على يقينٍ جازمٍ بأنها ستأكل لحوم الأعداء بعد انتهاء المعركة.
والمتأمل في هذا النظم البديع وما تضمَّنه من دلالاتٍ متفردةٍ يرى أنَّ الشاعر استطاع أن يستثمر أسلوب التعليل في التأكيد على وصفين للممدوح:
الأول: المبالغة في وصفه بالكرم والجود والسخاء، حيث كان يقتل الأعداء لتأكل الذئاب من لحومهم؛ لأنه كان يدرك أنها تترقَّب حصول المعركة وانتهاءها لتحصل على رزقها.
الثاني: المبالغة في وصفه بالشجاعة والإقدام، فهو واثقٌ بنفسه، موقنٌ بانتصاره؛ ولهذا فإنَّ خروجه لملاقاة الأعداء ليس بقصد قتلهم في المقام الأول، فهذا الأمر مفروغٌ منه، وإنما لإطعام الذئاب، ومما يؤكِّد هذا الوصف ويزيد فيه أنَّ الذئاب وهي حيوانات عجماء تثق بشجاعته، وتعرف أنه منتصرٌ لا محالة؛ لما تراه من شجاعته وقوته، ولولا ذلك ما خرجتْ واثقةً تنتظر لحوم الأعداء.
ثم إنَّ في هذا التعليل مدحاً بوصفٍ آخر، وهو أنَّ الممدوح ليس من النوع الذي يحقد على أعدائه فيسرف في ذبحهم وقتلهم، وليس من أولئك الرجال الذين يُقيِّدهم الغيظ ويعميهم الحنق والانتقام فيُفني دون تفكير، وإنما يقتل بثقةٍ وشجاعةٍ ليطعم الذئاب بجودٍ وسخاء، وهي دلالاتٌ عميقةٌ متزاحمةٌ في غاية التناسق والانسجام، ومنتهى الجمال والبراعة، تمكن أبو الطيب من تقديمها وصياغتها من خلال هذا الأسلوب الفاتن الخلاب.
ولم يكن أبو الطيب يقتصر في استخدامه لهذا الأسلوب على غرض المديح فحسب، بل كان يستثمره في كلِّ غرضٍ يرى أنه في حاجةٍ إليه، خاصة في السياقات التي تحتاج مبالغةً ومزيداً من التأكيد، ففي إحدى نصوصه الغزلية يقول:
ما زلتُ أحذرُ من وداعكَ جاهداً
حتى اغتدى أسفي على التوديعِ
رحلَ العَزاءُ برحلتي فكأنني
أتبعتُهُ الأنفاسَ للتشييعِ
في هذا النصِّ يتحدَّث أبو الطيب عن فراقه للمحبوب، ذلك الفراق الذي طالما كان يخشاه، وهو هنا يؤكِّد أنَّ العزاء أو الصبر الذي كان يتمسَّك به قد رحل عنه، وهو الذي كان يتعزَّى به ويستمدُّ قوته منه، فأصبح في حالةٍ يُرثى لها، وصارت مصيبته مصيبتين: رحيله عن محبوبه، ورحيل الصبر عنه، ولو بقي الثاني لخفَّف عنه الأول قليلاً.
غير أنَّ أبا الطيب هنا يفترض أنَّ المتلقي يتساءل: ما السبب الذي جعل الأنفاس هي الأخرى ترتحل عن الشاعر حين رحل هو ورحل صبره؟ مع أنَّ العلة الحقيقية لتصعيد الأنفاس في هذا الموقف واضحةٌ لا خفاء فيها، وهي الأسف والتحسُّر الذي يشعر به الشاعر جرَّاء هذا الرحيل، غير أنَّ المتنبي يرفض هذه العلة المعروفة المعتادة، ويقرِّر أنَّ الأنفاس التي تخرج منه وترحل لم تكن لتفعل ذلك لهذه العلة، وإنما لعلةٍ أخرى يدهشنا بها، ويجعلنا في غاية الترقُّب للتعرُّف عليها.
يبين أبو الطيب في الشطر الثاني أنَّ أنفاسه تبعت العزاء في الرحيل للتشييع والتوديع، «فكأنه لما كان الصدر محل الصبر، وكانت الأنفاس تتصعَّد منه أيضاً، صار العزاء والنَّفَسُ الصُّعداء كأنهما نزيلان، فلما رحل ذلك كان حقاً على هذا أن يُشيِّعه قضاءً لحقِّ الصحبة»، وهي علةٌ مفاجئةٌ لرحيل الأنفاس، صاغها الشاعر في أسلوبٍ بديعٍ يجمع بين التأثير والمتعة والجمال والإدهاش.
ولم يكن أبو الطيب الشاعر الأوحد الذي استثمر هذا الفن البديعي الجميل في صياغة دلالاته ونظم رؤاه وأفكاره، لكني آثرتُ إفراد بعضٍ من نماذجه ليتوحَّد الموضوع من الجانبين: الشاعر والأسلوب، إضافةً إلى ما يتميز به هذا الشاعر من إبداعٍ في استخدام الفنون، وقدرةٍ باهرةٍ على البراعة في الاعتماد عليها، ولعلي في مقالاتٍ قادمةٍ أقف عند نماذج متنوعة لهذا الأسلوب عند أكثر من شاعرٍ كي نرى معاً كيف كان المبدعون يتعاملون معه في صياغة رؤاهم.
إنَّ جمال هذا الأسلوب القائم على خلق علةٍ جديدةٍ لأمرٍ معلومٍ العلة جديرٌ بالتتبع والدراسة، فتراثنا العربي يبدع في استخدام الأساليب البلاغية، ويستثمرها الشعراء المبدعون استثماراً في غاية الروعة والجمال، وأرى أنَّ التعليل الإبداعي يتفوق على كثيرٍ من هذه الأساليب؛ لصعوبته، وقيامه على التفكير العميق والرؤية المحلقة، وانطلاقه من رغبة المبدع في أن يصل المتلقي مع نصه إلى غاية الإدهاش وقمة الإبهار، رافلاً في ثيابٍ من المتعة الأدبية الجميلة.
- الرياض
Omar1401@gmail.com