رؤية حكائية تستلهم صورة المعاناة اليومية
تدشن القصة الدكتورة سعاد السعيد مجموعتها القصصية الجديدة (منطق الطير - البنات -) في عمل إلماحي يستشرف القصة الحقيقية، أو الحكاية المعتقة للإنسان الذي يسعى إلى الخلاص من منغصات كثيرة في الحياة من حوله؛ على نحو ما تساوق من أحداث في القصة الأولى (المسك) حيث يستشعر القارئ حقيقة الهمّ اللاعج في الوجدان حينما تأمل الفتاة سحر النجاة من حالة والديها وهما يمتهنان عملاً أليماً هو تجهيز الموتى بالغسيل والتكفين، فكانت هذه المهنة مثار مقت أدى أن تقتل الفتاة والديها، بل وأختها من أجل ما تزعم أنه الخلاص من هذه الأعمال التي تشعر أنها فظيعة ومريعة.
فالسرد لدى القاصة سعاد السعيد يميل إلى الحكاية، ويسترشد بلغة الحوار الواقعي والمباشر، لتتكون هذه النصوص بمنظومة قيم إنسانية تبحث عن خروج مشرف للتجربة الإنسانية في امتحانها الصعب والقاسي؛ حيث تضيف القصة الثانية (التأقلم) في هذه المجموعة بُعداً آخر لمعاناة المغترب الذي يسعى إلى أن تكون حياته في الغربة متوائمة.
عناصر السرد في قصص (منطق الطير) متكاملة الأرجاء، وتميل في مجملها إلى أن تستحضر هوية الحكاية في مسافات الزمان وامتدادات المكان، أي أن جل القصص يظهر فيها نسيج الأحداث المعبأة بحكمة الحكاية التي تدور في فضاء واقعي واضح.. يظهر الشارع والحي والبيئة المحلية وكل تفاصيل المكان العابق بالبساطة، والتمايز عن كل منغصات الحياة، فرغم أن هناك من يعاني من هؤلاء الشخوص في القصص إلا أنهم يتمتعون وبفضل قوة السرد من الراوي وقدرة المكان على خلق بيئة واقعية تدهش المتأمل في مشهد المكان وتشد القارئ نحو تتبع هذه الحكايات التي تلتقطها الكاتبة سعاد السعيد لتلتقي في هذا السياق الإلماحي حقيقة بناء القصّ على مفهوم حالة المكان والكتابة عنه بشكل متميز لا يترك أي صغيرة أو كبيرة إلا ودوّنها على نحو متقن.
أما حيز الزمان في قصص المجموعة إجمالاً، فإنه ينهل من معين فضاء السرد الذي يستحضر عمر الحكاية البسيط في هذه الأحداث التي يقدمها الراوي بكل جرأة واقتدار، ليجعل منها هاجساً إنسانياً يُؤصِّل لفكرة الحكاية أو القصة المتكاملة الأركان، وإن كان هناك إصرار من الكاتبة على فتح فضاء النص السردي ليحمل مضامين إنسانية أخرى؛ تظل هي الهاجس الملح في بناء حكاية الإنسان مع واقعه.
وبما أن حيزي الزمان والمكان حاضران بوضوح، فإن عناصر السرد الفني الأخرى للنصوص حضرت بشكل متوازن وسجلت الأحداث ذاتها، واللغة حضورها بشكل لافت ومتميز.
بيئة النصوص - كما أسلفنا - لم تكن في تكوينات المكان العابق بالبساطة والعفوية، إنما تعداه إلى التقاط مفارقات تأصيل المشهد الوجودي لهؤلاء الذين يعيشون بهدوء، ويؤدون أدوارهم بشكل متقن، لتكون بيئة القصّ منطلقة من تكوينات جمالية تسهم في صياغة مفهوم جديد للنص القصصي الحديث والذي عكفت عليه الكاتبة وقدمته بطريقة متزنة وواقعية، أي أنها لم تقس على الحياة أو البيئة بشكل واضح رغم آلامها ومعاناتها التي تجعلها على شكل ابتسامة أو دعابة أو خاطرة جميلة أو حوار مع إنسان بسيط ليكتنز مشهد القصة بهذه التفاصيل الحميمية.
فكرة النصوص واضحة ولا لبس فيها، فلكل قصة من هذه القصص رؤية متكاملة تنطلق منها لتعيد الكاتبة سعاد ترتيب الحكاية، وإخراجها من كونها مقولات متتابعة إلى نص أدبي قصصي مكتمل المعالم، فالفكرة هنا هي أساس النص ومنطلقه الذي يستفيض في شرح خطاب الإنسان لمن حوله من كائنات ومعالم.
وما يميز هذا العمل أنه استحضر بشكل واضح شخوص العمل، فلم يكونوا مجرد وجوه أو أسماء إنما جاؤوا ممثلين لرؤية الكاتبة، ومستبطنين لفعاليات الكتابة كاملة غير منقوصة، لترسم لنا ومن خلال الرواة للقصص الكثير من الشخوص الذين يشاركونها تفاصيل هذا المشهد اليومي المتخم في تفاصيله وإيحاءاته ووجوده، حيث تمتد هذه العلاقة بين الشخصية والكاتبة على نحو تفاعلي وبأسلوب حواري هادف ينطلق من بناء خطاب القصة أو الحكاية المفيدة وذات الأهداف المفيدة للقارئ.
** ** **
إشارة:
منطق الطير (الطالبات) قصص قصيرة
سعاد فهد السعيد
شمس للنشر والإعلام القاهرة 2015م
تقع المجموعة في نحو (184صفحة) من القطع المتوسط