«حين تركنا كتابة الرسائل خسرنا، فليس بإمكاننا إعادة قراءة مكالمة هاتفية»
ليز كاربنتر
شاهدت الصيف الماضي فيلمًا هنديًا بعنوان «حقيبة الطعام»، لديهم طريقة عجيبة في إيصال الطعام من الزوجات لأزواجهن العاملين في أماكن بعيدة، وبطريق الخطأ تصل حقيبة الطعام التي تعدها إيلا لزوجها إلى شخص آخر، وتكرر الأمر يوميًا، كانت جارتها تعطيها نصائح لإعداد الغداء كي تتمكن من إثارة اهتمام زوجها الذي تشعر ببروده القاتل، وحين عاد إلى المنزل كانت متلهفة لترى ردة فعله على الطعام لكنه اكتفى بالقول إنه جيد، ثم سألها لماذا أعدت له القرنبيط، هنا عرفت أن الوجبة وصلت إلى الشخص الخطأ، وكتبت رسالة في اليوم التالي ووضعتها مع الطعام، لكن لم يتغير شيء سوى أنهما – إيلا والمجهول- ظلا يتبادلان الرسائل عبر الحقيبة يوميًا، فقد كانت تقص عليه في رسالة قصيرة بعضًا مما تفكر به، وكان هو يحدثها عن زوجته الميتة وعن أمور أخرى وكل ذلك عبر حقيبة الطعام، التي تحولت إلى صندوق بريد متنقل وله رائحة ولون ونكهة!
أحببت الفيلم كثيرًا، فإلى جانب شفافيته وبساطته، كان يقوم على الفن الأحب لديّ، الرسائل. أفتح بريدي في اليوم أكثر من مرة بأمل أن تصلني رسالة من هنا أو من هناك، ولكن الحصيلة غالبًا خواء، وحين يحدث أن يمتلئ بريدي في يوم ما، أقرأ الرسالة الجديدة أكثر من مرة بسعادة غامرة مثل الأطفال. في زمن ما، صنعت أختي صندوق بريد من الورق المقوّى واقترحت علينا أن نتبادل الرسائل، كانت ذلك تدريبًا جميلاً على الكتابة، ورغم حماسنا لكننا كنا أشرارًا ولم نضع في الصندوق سوى رسالة أو اثنتين!! أشعر بكثير من الندم والإحساس بالذنب تجاه ذلك الصندوق الجميل، لأنني لم أقدره حق قدره، وربما ثأر ذلك الصندوق لنفسه فلم يعد لدي ممن يكاتبني مثل جنرال ماركيز، وربما أصبت من حينها بلعنة الرسائل التي صارت متنفسًا، على الأقل بالنسبة لي لأنني أتعثر كثيرًا في الأحاديث الشفهية، ويمنحني الورق رحابة وسع المدى، فأمارس لعبتي المفضلة أنا والكلمات.
أصبح لديّ ما يشبه الهوس بالرسائل وكتابتها، فأكتب أفكارًا متناثرة من هنا وهنا كي أقبض عليها، ثم حين تحين لحظة الانفجار أمزج بينها وأمشط لها شعرها وأضع لها الشرائط الملونة (رغم ما يبدو فيها من سواد) وأرتبها في صفوف، أحيانًا يخطر لي نص قرأته لشاعر أو لكاتب وأبني عليه حكايتي الخاصة، وأحيانًا أخرى أناقشه (بيني وبين بثين الصغيرة) وأجادله وأنفي ما يقول أو أثبته، ومرات تخطر لي صورة تلائمني من هذا الآخر، فأتشبث بها، وأؤسس عليها رسالتي!
منذ عامين تقريبًا، قررت أن أفعل مثلما فعلت جودي – بطلة رواية أبي طويل الساقين Daddy Long Legs للأمريكية جين وبستر صدرت بترجمة سمير محفوظ بشير عن المركز القومي للترجمة في مصر- قررت أن أكتب يوميًا لصاحب الظل الطويل، ولنفسي أولاً وآخرًا، فكتابة الرسائل عالجتني لأني كنت أغوص في أعماقي، أكتب عن ذكرياتي، عن أسرتي، قراءاتي، صديقاتي، يومياتي التي ليس فيها شيء مثير، كانت إيلا في الفيلم الهندي تقول يمكنك أن تقول كل شيء في رسالة، وهذا ما كنت أفعله أنا فيما يشبه الجلوس على «شيزلونج» المحلل النفسي، الكتابة كانت تدريبًا لي على الكتابة والحياة على حد سواء، أنا لم أكن كائنًا يتمتع بالذكاء الاجتماعي يومًا، لكن الكتابة حققت لي شيئًا من ذلك الذكاء وإن كان بيني وبيني فقط! كتابة الرسائل هي عصاي السحرية!
ما زلت مصابة بلعنة الصندوق ذاك، وما زلت أجمع كتب الرسائل لعلي أجد فيها تعويذة تنقذني، وما زلت أكتب الرسائل التي لا يقرؤها أحد سواي! أظنني أتحول إلى جنرال عجوز ينتظر ما لا يأتي!
بثينة الإبراهيم - الكويت