المدن حينما تتشكل تختلف فيها الحياة عن حياة الريف، كما تختلف اختلافاً جذرياً عن حياة القبيلة، ففي المدن تقوم بنية جديدة للحياة، وعلاقات تقوم على الوظائف التخصصية التي تنوط بكل واحد في مجتمع متكامل متكافل، وتتعقد الحياة أكثر بكثرة الاختلافات وكثرة الناس، وهذه الاختلافات في المدينة ميزة تشير إلى التنوع الذي يجعل للحياة طعماً ومذاقاً مختلفاً عن الحياة القروية وعن حياة القبيلة...، غير أن تنظيم الحياة في المدن يحتاج إلى تنظيم راق يختلف عن التنظيمات البسيطة ليكفل حياة مستقرة وليكفل تطوراً حضارياً لا يتوقف للذين يعيشون في المدن كما يكفل دورة اقتصادية كاملة تقوم عليها تلك المدن لتعيش ولتزدهر..
إن التركيبية السكانية المتنوعة للمدينة، من الأهمية بمكان في خلق بيئة المدينة، ولكن الذي يحدث في بعض المدن أنها تحتوي في تركيبتها على تجمعات لعدة قرى أو لعدة قبائل دون أن تنتقل لتكون مدناً بحق، ليس هذا فحسب، بل هي لا تنتقل من مفهوم تجمع إلى مفهوم مجتمع حتى ،...
وعلى ذلك لا تكاد تجد فرقاً أن تعيش في تلك المدن أو تعيش في الريف أو في البادية، فليست تلك المدن إلا مجموعة صناديق أو علب أو ناطحات سحاب من الأسمنت والحديد والطوب، ومجموعة من البشر الذين ضيعوا ذواتهم فلا هم من القرى ولا هم من أهل المدن يدفعهم إلى تبلد الشعور وتكلس القيم النمط الاستهلاكي الغربي العولمي الذي عمم طرقا باردة في الحياة لا تكاد تحمل قلباً ولا حساً
تصبح تلك المدن التي عبارة عن تجمعات منفصلة وصناديق إسمنت مغلقة وخطوط استهلاكية ثابتة مفرغة من المعنى.. مفرغة من القيم.. مفرغة من البهجة.. مفرغة من الهواء تضغط على الإنسان البائس ليحاول بشتى الوسائل أن يجد لحياته معنى، لذا فبعضهم يعد الدقائق والثواني ليسافر إلى حيث يرى المدن والبشر والرقي الحضاري ويستمتع بحريته وبالجمال ويتنفس بعمق كل ذرة هواء نقية، بل تراه يعب من عرار الحضارة بشره شديد استعداداً للعودة إلى صندوقه الأسمنتي، وبعضهم يكدح كدح البعير الذي تُغطّى عيناه ويظل يستخرج الماء لغيره طوال حياته أو يدور في معصرة زيت ويظن نفسه يمشي في طريق مستقيمة..
أما الأقرب إلى التصالح مع الذات فهم أولئك الذين يعيشيون قرويتهم أو حياتهم القبلية وهم داخل تلك العلب الإسمنتية المركومة فوق بعضهم وتسمى مدناً غلطاً لا مجازاً ولا حقيقة فتراهم يمارسون عادات القبيلة في عمق المدينة، ولذا ظهر بيت الشعر كنوع من الحنين إلى حياة القبيلة في صفائها وبساطتها، ولكن هذا الحنين هو في الحقيقة مؤشر على فقد حياة المدينة، مهما قيل في أنه نوع من العزلة أو نوع من الحياة الخاصة التي يمارسها الإنسان مع بعض أصدقائه الخاصين جداً، ولكن لماذا في شكل خيمة أو بيت شعر تحديدا؟!
في المدن الحقيقة تتنوع نشاطات البهجة والتسلية ما بين الحدائق الضخمة، والمسارح، ودور السينما، والملاعب المختلفة إضافة إلى فضاءات خاصة يجد فيها الإنسان المتعة والفائدة، إضافة إلى مكتبات ومتاحف في متناول النظر، وتخطيط مدني عميق يجمع الناس بسهولة في فضاءات وميادين يمارسون فيها الحياة والثقافة المشتركة التي هي عنوان لثقافة مدينتهم ومميزاتهم
أما في مدن أخرى قد تكون تسميتها مدنا من باب الغلط، فليس إلا الجدران الشاهقة التي تعزل بين الناس في كل شيء ولذا بدأ بعضهم يبنون خياماً داخل المدن فيالها من مدن ويا لها من خيام.. أقول هذا وقد بنيت خيمة في استراحتي الخاصة دون وعي مني بدلالات هذه الهندسة الخطابية للحياة التي دخلت من بين الداخلين فيها دون تدقيق، وقلت في نفسي فيما بعد لماذا لم أبن بيتاً من الحجر كالذي بناه معجب الزهراني في قرية الغرباء فهو أقرب إلى تراثي الحقيقي، ولكن توقفت عند وظائف هذه البناءات، إنها سواء أكانت خياماً أم بيوتاً من الشعر أم بيوتاً من الحجر تدل على أزمة في تشكيل مفهوم مدينة ما بعد الطفرة النفطية أكثر منها فضاءات للمتعة والعزلة الحميمية
لذا في المعتقد أن بناء بيوت الشعر في أفنية الدور في المدينة هي رمز أثير لدى القبيلي أبى إلا نقله معه داخل المدينة وانتشرت هذه الطريقة في اجتلاب بيوت الشعر حتى للحضر وحتى في المناطق الريفية الجبلية التي لا تعرف تلك البيوت وحتى في تهامة، وفي كل مكان وهي علامة وبناء هندسي يستدعي الوقوف والتأمل.. وهي لا تفتأ تذكرنا أيضاً بأحد الزعماء العرب الذي كان ينصب خيمته في كل مكان ينتقل إليه ويأبى السكن بين الجدران، خالطاً بين القبيلة والمدينة والأنا والدولة مشوهاً الفضاء في كل فضاء يحل فيه..
قد يمثّل بيت الشعر تشبثاً بالحياة القبلية التي تهيم بالبر والحياة البسيطة ولكنه في العمق تشبث بالقبيلة ورفض للذوبان السريع في حياة المدنية، أما استعماله فيما بعد بكثرة وبناء الاستراحات واعتباره ركناً مهماً من أركانها فهو يمثّل في رأيي تشوهاً في الهوية، وهرباً من تعقيدات الحياة الاجتماعية المضطربة في المجتمع ومنفسا لتزجية الوقت في فضاء مغلق مع أن الأصل أن يكون الاستمتاع في الفضاءات المفتوحة كبقية العالم ولكن الذي يحدث هو انتشار الاضطراب الاجتماعي الذي تلاه بالضرورة اضطراب هندسي حتى في طريقة الاستمتاع وحتى في غمرة الابتهاج القبلي بحيث أصبح ينظر إلى بيت الشعر كملاذ يأنس به المرء ويفر إليه من حياة المدنية، والحقيقة أن بقية المجتمع بما فيهم القبلي نفسه أصبحوا ينظرون إلى بيت الشعر كصندوق داخل صناديق المدينة المسلحة يدخلون فيه ليشعروا بالسعادة، وليخففوا عن أنفسهم عدم القدرة على فهم كل هذه المتناقضات وكل هذه الازدواجات بين الدين والمدينة والقبيلة والتخلف والتحضّر والفصام المترسخ في العلاقات الاجتماعية وخصوصاً في أبعادها المهمة التي تؤثر في التركيبية الاجتماعية برمتها، وفي فقدان المؤسسات باسم المؤسسات، وفي الحسرة التي يشاهدونها في رقي التنظيمات العالمية حتى من غير وجود ما يسمى قبيلة..
وبالنظر إلى ما تمثله الاستراحات في مقابل الديونيات في الكويت كبناءين يحملان رموزا لخطابات اجتماعية، نجد أن الديونيات الكويتية تحولت إلى فضاءات مثلت مواءمة بين المتطلب الديمقراطي الحديث، والحياة الاجتماعية القبلية، والدينية والقروية البسيطة، وقد استطاعت القبيلة أن تجد فيها شجاعتها المتمثلة في حرية التعبير والتفكير في المجتمع الحديث، كما تجد فيها نوعاً من التجمع الذي يعوضها عن التجمع القبلي الموسع، في حين تحولت الاستراحات إلى فضاءات هروبية - وأوكاراً لأفكار أو تصرفات غير مقبولة لتختفي فيها عن الأعين، وفي أحسن الحالات تعبيراً عن السلبية وعدم فهم المجتمع الحديث..
إن التنظيم الجماعتي هو الأقرب لما يحدث في المدن لدينا وليس التنظيم المجتمعي، ولا يمكن التغاضي عن أهمية التخطيط السيسولوجي لبناء التنظيم المجتمعي للمدن لا الشروع الغبي في تحطيمه بتشجيع قبيلة المدينة أو ملء المدن بمجموعات من القبائل ليس إلا ولن يكون ذلك إلا بمأسسة الحياة وبالتخطيط الحضاري الذي يهتم أولاً بهندسة الإنسان قبل هندسة العمران، ولئن كفت السسيولوجيا عن الحديث عن الجماعة أو المجتمع بصورته الحديثة كما يذهب ألان تورين وأصبح حديثها عن السلوكات والعلاقات الاجتماعية من خلال سيسولوجيا نقدية حديثة فإننا بكل أسف ما زلنا نقبع فيما قبل المجتمع الحديث، وفي ما قبل السيوسولوجيا الحديثة مهما ارتفعت ناطحات السحاب إن لم يرتفع الإنسان ذاته.
د. جمعان بن عبدالكريم - الباحة