تبوأ الإمام النحوي الكبير أبو عبدالله محمد بن مالك (600-672هـ) مكانة عظمى في تاريخ النحو، بمؤلفاته المتقنة، ومنظوماته السائرة، وآرائه السديدة، المبنية على دراية في النحو، ورواية للشعر، وعناية بالقرآن الكريم وقراءاته، وبالحديث النبوي ورواياته.. وكانت ألفيته وشروحها غاية ما يصل إليه أغلب المتعلمين في المعاهد العلمية وكليات اللغة العربية في بلادنا، وعامة البلاد العربية، فلا عجب بعد ذلك أن يكون ابن مالك -رحمه الله- الرجل الثاني، بعد سيبويه، بين النحويين في تكويننا المعرفي النحوي، وإن لم يكن كذلك في الواقع العلمي التاريخي.
ولقد توارثنا محبته -رحمه الله-، لما وجدنا من علمائنا ومعلمينا من تقدير عظيم، وثناء ودعاء ودفاع، حتى تندر بعضنا بمن يصلحون أبيات الألفية من العلماء، ويستدركون ما فيها من نقص، ويقترحون ويعدلون.. أما إذا نقل أحد المترجمين شيئًا يغض من ابن مالك فلا أقل من أن نستعيذ بالله من شر الكذابين المفترين، الذين يفترون عليه ما تتحاشاه أخلاقه -رحمه الله-!.
نقل الصفدي أن رجلاً دخل على ابن مالك الحمام وهو يستحد، فسأله: ما يفعل الشيخ؟.. فرد عليه ردًّا لا يناسب ما في قلوبنا من محبته، فكان شيخنا النحوي القدير الشيخ أبو سليمان صالح بن سليمان العبيكي يستنكر هذا الخبر، ويتعاظم أن يتفوه ابن مالك بذلك الرد، مع أنه لم يقل كفرًا ولا فجورًا، وإنما رد -في نظري- ردًّا يناسب سؤال الفضولي السخيف!.
ولم تقف آثار محبة ابن مالك على تبجيله والدفاع عنه، بل تعدى ذلك إلى بذل المال صدقة عنه، هذا شيخنا النحوي المفسر فضيلة الشيخ علي بن محمد الزامل -رحمه الله- يذكر عن نفسه أنه ضحَّى لابن مالك في وقت كان أشد ما يكون حاجة للمال!.
وفي هذه الأثناء المعطرة بمحبته، المشبعة بتبجيله جيلاً بعد جيل، يورثها الأول للآخر، يطلع على الساحة النحوية الأستاذ فيصل المنصور بكتابه الذي ادعى فيه تدليس ابن مالك في شواهد النحو، وأثبت دعواه بالأدلة الواضحة، وجعل التدليس عنوان الكتاب!.
لا شك، والحالة هذه، أن تتوالى الضجة تلو الضجة، والاستنكار تلو الاستنكار، وربما نال المؤلف من سوء القول، أو عجل الاتهام، ما ناله. والمؤلف، الأستاذ فيصل، عالم جليل، نحوي متمكن، أقولها معتقدًا معناها، فقد عرفته طالبًا، واطلعت على شيء من مؤلفاته وهو في الكلية، وصرت أناقشه لأستفيد منه، ولا أجد في طول صحبته إلا أدلة تمكنه وعلو كعبه في هذا العلم، ومثله لن يعجزه موضوع ليكتب فيه رسالة علمية، وإنما همه أن يصيب في العلم هدفًا يكون منارًا لما بعده.
لقد مضى على نشر الكتاب سنتان، ورد خلالهما عليه ردودًا كثيرة، والآن، وبعد ما هدأت تلك العواصف والرعود، أعود فلا أجد فيما قرأت منها ما يرد عليه بالرد القاطع فيعيد هذه الأبيات المختلف حولها إلى من سبق ابن مالك، فلا تزال العاطفة هي الحاكمة في تكويننا العلمي، ولا يزال التجرد مطلبًا عسير المنال.
وثمة أمر آخر في هذه القضية، يجدر بأهل اللغة الوقوف عنده، والنظر في أبعاده، فإن (التدليس) بمفهومه الاصطلاحي عند أهل الحديث أهون من (الوضع)، إلا أن الناس غلب عليهم تعريفه الفقهي القانوني، فهو ثَمَّ نوع من الخديعة والاحتيال، وقد يبطل به العقد، ويعاقب عليه، ومن هنا استقر في أذهان كثير جلهم من طلاب العلم، أن عنوان الكتاب اتهام باطل، أو ضرب من سوء الأدب الذي لا يجدر أن يصدر من أهل العلم.
أود في الختام أن أشير إلى أمر في غاية الأهمية، وهو أن القضية لما تحسم ما دام في خزائن المخطوطات شيء لم يظهر، حدثني شيخنا الدكتور عبدالرحمن العثيمين -رحمه الله- أن لديه شرحًا لجمل الزجاجي، لمؤلف في القرن السادس -نسيت اسمه- حوى أبياتًا كثيرة جدًّا غير متداولة في كتب النحويين، مما جعل د. عبدالرحمن لا يدفعه لأحد من طلاب الدراسات العليا؛ لأنه (سيتورط فيه) كما يقول (رحمه الله)، فلن يجد لأبياته مصادر.. لو ظهر هذا الكتاب ربما غير حقائق عن (تدليس ابن مالك). -رحم الله- الجميع.
د. فريد بن عبدالعزيز الزامل السليم - عنيزة
fareedzam@hotmail.com